يُعتبر الأمير خالد الفيصل رمزاً ثقافياً وطنياً وإقليمياً ودولياً، وهو قامة ثقافية وفكرية، والحديث عن هذا الأمير الأريب من مثلي يُعبّر عن خواطر عامة وانطباعات متفرقة فقط لا ترقى إلى رزية هذا المفكر المثقف ولمعرفة حقيقة شخصيته إبداعاً أدبياً وفكراً شعرياً وتصويراً تشكيلياً جمالياً، ولبيان الواقع عن الأمير خالد الفيصل والجوانب الفكرية والثقافية لشخصيته فإن قراءتي تنطلق من التأصيل الفكري للواقع الذي نعيشه ومقولات البعض الذين يريدون مجانبة الصواب لتفعيل آرائهم وأهوائهم وإن عرفوا الحق، والعلماء المخلصون يقولون: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، فالإسلام الذي بُعث به سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين الله الخالص بمكونات العقيدة الصافية والشريعة العادلة والحضارة الفكرية المميزة، فالإسلام عقيدة وشريعة وفكر، ولقد بيّن ذلك الصحابي الجليل ربعي بن عامر - رضي الله عنه - بقوله: «إن الله بعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»، فعبادة الله وحده هي التوحيد في العقيدة وعدل الإسلام شريعة الحق وسعة الدنيا حرية الفكر المتميز بضوابط العقيدة والشريعة مما جاء بهما سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر أن يُقال الحق وإن كان مراً، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم، وذم الله سبحانه وتعالى الساكتين عن قول الحق والإفصاح عنه ووصفهم بالصم البكم الذين لا يعقلون.. وامتدح المتنبي صاحب الرأي البصير المستنير بقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
بلغت من العليا كل مكان
وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يمتدح الرجال الذين يعيشون للحقيقة فيقول:
إن الذي خلق الحقيقة علقما
لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
بهذا لم يكن الإسلام قائماً على فئوية الاتجاه والتفكير فالصوفية والإخوانية والسرورية... إلخ وكذا سلفية وقتنا الحاضر وما في حكمها من النحل والمذاهب لا تعبر عن دين الله الخالص، فأصحابها بين جفاء أو غلو، ولكن الوسطية التي نراها في بعض أبناء الأمة اليوم من سلامة العقيدة والشريعة وتفعيل لموروث حضارة الإسلام وفكرها يمكن تلمسها من خلال تتبع جذورها وتأصيلها في الحضارة الإسلامية وصولاً لحقيقة مكونات فكر وثقافة الأمير خالد الفيصل.. فهو الشاعر بحسه المرهف وقصائده العربية والوطنية الوصفية منها والعاطفية والحماسية بمكنون جمالها.. وهو الأمير الرسام الذي يعكس مشاعره الإنسانية على لوحات جميلة تعبّر ألوانها على دواخل الحس الجمالي المرهف مع وضوح الرؤية بعيداً عن الغبش والعشى لدى الأمير خالد، وهو المفكر الأمير الذي عايش الحدث الحاضر غير متناسٍ ترسبات الماضي، استلهاماً للمستقبل، فهو صاحب رؤية فكرية نحو عالم إنساني متميز لأمته في عصرنا الحالي.. ومعرفة أهداف ومهام مؤسسة الفكر العربي يوضح لنا لماذا كانت هذه المؤسسة؟.. فهي من العرب وللعرب، وإن لم يكن فيها سوى العربية لغة القرآن الكريم لكفى ذلك في تعليمها لمتابعي مناشط تلك المؤسسة من عربي ومستعجم وعجمي، وما فيها من مطارحات فكرية ومداخلات ثقافية تذكرنا بموروثنا الحضاري بين مفكري الأمة كما كان الأمر في الماضي في مطارحات الشعراء والنقاد والأدباء وكتاب الرسائل ومثقفي أدب التوقيعات.. فكان العرب ينتجون أدباً وفكراً في مناسباتهم وما جد من أحداث، فتدعو دواعي الخطبة فيخطبون، وللمثل فيضربون، وللشعر فيشعرون وينظمون، مما وصلنا من موروث ثقافي وأدبي كما عقد ابن عبد ربه ومستطرف الأبهيشي وبهجة بن عبد البر القرطبي، فيتذكرون أيامهم وتاريخ أسلافهم ويعالجون الأحداث في شئون دينية واقتصادية وسياسية وعقد الأحلاف والمعاهدات ومذكرة التاريخ والأحداث... إلخ تلك هي بعض الأهداف التي تسعى إليها مؤسسة الفكر العربي مما يجهله البعض فيعمد إلى تشويه حقيقتها لأن ذلك لا يتوافق مع أهوائهم بدوى باطلة كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، مثل أولئك الذين يبترون أحكام الإسلام بحسب أهوائهم، فذاك يؤكد على تحريم النياحة على الميت مثلاً، ولكنه لا يرى بأساً من الطعن في الأنساب وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحريم النياحة والطعن في النسب جاء في سياق ونص واحد.. وهكذا يسوغون لأنفسهم الطعن في ما لا يحبون فنقول لأولئك: لينظروا إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قس بن ساعدة الإيادي الذي أجابه عن ذلك الصحابي الجليل أبو بكر الصديق بقوله: كأني به وهو في سوق عكاظ يخطب وكأني أراه الآن وهو واقف على صخرة بالسوق، وقد أدرك الأمير خالد الفيصل أهمية سوق عكاظ وسيلة للتثقيف والحوار، فمؤسسة الفكر وسيلة تثقيف وتوعية وتعليم لأبناء الأمة وما عندهم من موروث في الماضي وما يدور حولهم من أحداث في الحاضر وما ينتج عن ذلك من قراءات للمستقبل، ثم بعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وسوق عكاظ نادي العرب الأدبي الثقافي إلى جانب مناشطه الأخرى، والشعر ديوان العرب ووعاء لغتهم وبحكم موقع عكاظ في منطقة مكة المكرمة التي هي تحت إمارة الأمير خالد الفيصل واستناداً إلى حسه الأدبي في الفكر والثقافة والشعر فقد سعى الأمير خالد إلى إحياء هذا الموروث الثقافي الفكري الذي كان له شأن في الجاهلية، والسؤال عنه في الإسلام مما جاء في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عُرف عن اهتمامه عليه الصلاة والسلام بالشعر كما جاء ذكره في القرآن الكريم ومما ورد في الصحيحين وغيرهما من كتب الأسانيد وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة» حتى إنه سمع ذات مرة مئة بيت من شعر أمية بن الصلت فقال عليه الصلاة والسلام معجباً: «أن كاد ليسلم في شعره» وهو شاعر جاهلي غير مسلم وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وعلّق بقوله عليه الصلاة والسلام: «إلا نعيم الآخرة» ثم أيحق للمستشرقين أن يحتفوا بالمعلقات السبع والقصائد العكاظية والتي يسمونها بالقصائد الذهبية ويعتنون بها ترجمة ودراسة ونقداً وشرحاً وتعليقاً وتذوقاً وبعض الأدعياء يقولون إن بعض موروث مناشط سوق عكاظ إنما هو دعوى الجاهلية.
إن حس الأمير خالد الفيصل بحضارة الإسلام وإحساسه الفني والأدبي يربأ به أن يخلط في منهجه الثقافي والفكري والأدبي الكفر والإيمان وهو سليل أسرة قامت على التوحيد والشريعة والفكر السليم، مما يتأسى به الأمير خالد الفيصل كما جاء في أسد الجزيرة ومؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز - رحمه الله - بقوله: «يجب على كل إنسان أن يقول ما في ضميره بصراحة وأن لا يخشى في الحق لومة لائم، يجب أن يصرح كل فرد بما في نفسه ويقول ما يعتقد فيه صحته، فهذا أمر واجب على كل إنسان، لأن مجال البحث والتدقيق يوصل إلى نتائج حسنة، فعلى الإنسان الاجتهاد وبالله التوفيق، ومن واجب الإنسان النصح والإرشاد، وأن لا يتقيد أحد بأن هذا مخالف أو ذاك موافق لكل بل يجب أن يقول بجلاء ما يرتئيه من خير وفلاح فإن لكل مجتهد نصيبا» وسوق عكاظ في رؤية الأمير خالد الفيصل منتدى لمطارحات الفكر الثقافي شعراً ونثراً بين الشعراء وتواصلاً وتوصلاً بين موروث الأمة وربطاً للماضي مع الحاضر يسمع الشعر بمضمونه وفوائده ولا ينظر إلى قائله، فالثقافة حق للجميع كما يراها الأمير خالد وأن مصادرها متعددة في وسائل الاتصال وفي الصحافة وفي الكتاب... إلخ فلا يجب أن يحرم منها أحد بناء على آراء واهمة وأهواء رافضة.. فالحقائق الشرعية والوقائع التاريخية وقواعد الحضارة الإسلامية ثقافة وفكراً، فناً وأدباً تعكسها شخصية الأمير خالد الفيصل لرعايته الفن والفكر والأدب والثقافة تارة من خلال مؤسسة الفكر العربي وتارة من خلال مناشط سوق عكاظ وتارة عبر مؤسسات فكرية وثقافية أخرى.
ويعود الجانب الفكري والثقافي إلى الماضي بسمو الأمير خالد الفيصل لبيان اهتماماته بالعلم والعلماء من خلال جائزة الملك فيصل العالمية التي هي بصمة مميزة للجانب الفكري والثقافي مما يتمتع به الأمير. فهي جائزة لا تتميز بعالميتها فحسب بل بصدقها وضماناتها الفكرية وضوابطها العلمية واهتماماتها العلمية والفكرية والثقافية في الدراسات الإسلامية واللغة العربية وآدابها والطب والعلوم، وهذا دأب الأمير خالد الفيصل تشجيع الأدب والفن والفكر والثقافة والعلم والإبداع، فهو الذي أسس جائزة أبها عندما كان أميراً لمنطقة عسير، وهو الذي أسس جائزة مكة المكرمة للتميز، فكل تلك الجوائز لها مقاصدها التي تهدف أساساً إلى استكشاف المبدعين وإلى شحذ الهمم نحو الإبداع والسير نحو التميز تساوياً مع الأمم المتقدمة وإن كنا ابتداء نحن خير أمة أخرجت للناس، واهتمامات الأمير بذلك كله تعكس كوامن من شخصيته بحسه الأدبي ورؤيته الفكرية والثقافية التي كان ولا زال يعبّر عنها منذ بداية رحلته العلمية في مدارس الأبناء في المملكة ودراسته في بريطانيا ومسيرة حياته العلمية والإدارية.
ونستذكر هنا واقع الحضارة الإسلامية في تاريخ رحلة الأدب عموماً والشعر خصوصاً ماضياً لنقارنه بواقعنا حاضراً، فلقد كان في الدولة الأموية بعض الشعراء النصارى، منهم شملة التغلبي وكان يدخل على الخلفاء في أيام عبد الملك بن مروان وابنيه الوليد وهشام، وأعشى بني تغلب عُرف في عهد الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، والأخطل التغلبي الذي تفوق على الجميع بجودة شعره ومتانته وغزارته وتفننه، وكان شاعر بني أمية غير منازع يفتخرون به يحلونه محل ندمائهم وأعز أصدقائهم ويجيزون له ما لا يجيزون لسواه من أصحابهم، وقد مدح الخلفاء الأمويين يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان والوليد وهشام ابني عبد الملك وقال عنه عبد الملك: «إن لكل قوم شاعراً وإن شاعر بني أمية الأخطل».. ومن الشعراء النصارى في العهد الأموي أعشى ربيعة ومرقس الطائي ونابغة بني شيبان وكعب بن جعيل والتغلبي والعجاج بن رؤبة، وكان كل هؤلاء الشعراء وغيرهم يقولون أشعارهم أمام الخلفاء وهي تحمل أفكارهم وأدبهم وفنهم دون أي مصادرة لحرياتهم الفكرية أو مناهضة أو تعكير لصفو الحياة الثقافية كما يفعله بعض الأدعياء في زمننا الحاضر جهلاً بأحكام الإسلام واستناداً إلى الرأي الواحد عناداً وتعنتاً ومصادمة ومنازعة. هذا هو الأمير خالد الفيصل الراعي للأدب والثقافة والإبداع والتميز الذي يعتقد أن الفن والأدب والرسم ومضامين الثقافة مرآة تعكس حضارة الإسلام وإنسانيته.
* مدير جامعة أم القرى السابق..
- فائز بجائزة الملك فيصل العالمية