يعد الأمير خالد الفيصل من الوجوه المضيئة في الحياة الثقافية في المملكة العربية السعودية، بل من أكثر القوى الداعية إلى خلق ثقافة مجتمعية أثرت في حياة كل مواطن ومواطنة في هذا الوطن.
ولا يخامرني شك بأنه يحتل الرقم الأول في قائمة المبدعين على جميع المستويات والأكثر نجومية لدى كل شرائح المجتمع، ولا أعتقد أن هناك مواطنا أو مواطنة على مختلف تنوعه الثقافي أو حتى الشعبي لا يعرف الأمير خالد الفيصل مبدعا، فتعدد الجوانب الثقافية والفكرية والإبداعية لدى الأمير خالد الفيصل انتشرت وأثرت في حياة مجتمعه، بل وتجاوزت ذلك إلى معظم المجتمعات الأخرى المحيطة.
فالأمير خالد الفيصل هو الشاعر، والشعر كان نافذته الأولى في الإطلالة على جمهور واسع، والجمهور السعودي جمهور شاعري يطرب للشعر، خاصة القاعدة الكبرى منه وهي القاعدة الشعبية التي خاطب الأمير وجدانها الشعبي بشعر شعبي هز منهم المشاعر، وخاطبهم بلغة وجدانية استجابت لها مشاعر العشاق والمحبين، استطاع بلغته الشعرية المجددة للشعر الشعبي تأسيس مدرسة شعرية شعبية جديدة خرجت من عباءة الشعر الشعبي التقليدي، استجاب لها الجميع في كل أنحاء الجزيرة العربية حتى تلك البيئات التي لا تعرف الشعر النبطي الذي ارتبط انتشاره بالبيئات الصحراوية والبيئات البدوية، فتجد أبناء المدن في الحجاز والقرى والأرياف في جبال عسير وتهامتها، وكذلك سكان السواحل الذين لهم فنهم وشعرهم، قد خطف شعر خالد الفيصل وجدانهم و أحاسيسهم بلغة قادرة على تحريك مشاعرهم مما مكنه من كسر حواجز اللغات واللهجات المحلية فجاء شعره ليؤسس لمدرسة شعرية اجتازت كل الحدود وأذابت كل الحواجز والفروقات وأسهمت بقوة في وحدة ثقافية وطنية ظلت وسائل التواصل المعرفي مثل : الإذاعة والتلفزيون والصحافة عاجزة عن اختراق تلك الحواجز الذي تمكن شعر خالد الفيصل من اختراقها.
ومما ساعد شعر خالد الفيصل على الوصول إلى كل الجمهور السعودي في كل أنحاء البلاد انه شعر مغنى وتغنى به كبار الفنانين وصدحت به كل الشفاه وطربت له كل القلوب، ومنذ البدايات الأولى لظهور مدرسة خالد الفيصل الشعرية وهي صاحبة تأثير قوي في وجدان مجتمعه و أبناء شعبه.
لم ينحصر إبداع الأمير خالد الفيصل في الشعر الشعبي الذي أجاد وأبدع في تأسيس مدرسة جديدة له بل تجاوزه إلى الاهتمام بالعديد من الجوانب الإبداعية الأخرى، فلقد كان أول من تسنم منصب رعاية الشباب في فترة مبكرة من حياته الوظيفية بعد أن أكمل دراسته الجامعية في أرقى جامعات العالم كان آخرها جامعة أكسفورد، وقد استقى خلال تحصيله الجامعي الكثير من المعارف العصرية واستفاد من تجارب الأمم أهمية الفعل الثقافي والفكري في صناعة الشعوب، والرقي بمستواها الحضاري ما جعله عند عودته ومباشرة عمله في رعاية الشباب يعقد الندوات الثقافية والفكرية مع رموز الثقافة في بلاده ويؤسس أول صالون ثقافي يلتقي فيه رموز طلائع المفكرين والمثقفين السعوديين مما أكسبه الريادة في فتح أول صالون أدبي ثقافي في العاصمة الرياض ولا زال رواد الثقافة وعشاق الشعر والأدب يتذكرونه إلى اليوم.
ولعل الأمير خالد الفيصل أول أمير سعودي من الأسرة المالكة ينهج نهجا غير مألوف في بلاطات الحكم في الجزيرة العربية من حيث الاهتمام بالثقافة والفكر ورعاية المبدعين في كل جوانب الإبداع ويفتح بيته وصالونه لهذا الغرض، وهو في هذا النهج يشبه ما درج عليه بعض ملوك أوروبا وأمرائها وأرستقراطييها من احتضان المبدعين من الشعراء والفلاسفة والفنانين من أساطين الموسيقى من أمثال بيتهوفن و موزارت والفنانين التشكيليين وغيرهم الذين لو لم يكن هناك رجال آمنوا برسالة الفن والإبداع لما كنا والعالم معنا استمتعنا وتذوقنا إبداعات أولئك المبدعين الذين أسعدوا الإنسانية في أوقات كانت هناك قوى تحارب الإبداع والمبدعين لأسباب وأغراض مختلفة، ربما في مصر وحدها في عصرها التنويري الذهبي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى انتهاء النصف الأول من القرن العشرين ظهر من أبناء الأسرة المالكة وكبار الأثرياء من قلدوا نظراءهم في أوروبا في احتضان الإبداع والمبدعين مثل الشاعر أحمد شوقي ومطرب العرب الأول محمد عبد الوهاب وأم كلثوم و زكريا أحمد وغيرهم من المبدعين في مجالات المعرفة.
لقد كان الأمير خالد الفيصل مع استفادته من تجارب الآخرين نموذجا منفردا في بيئة مختلفة استطاع ان يوصل رسالته دون أن يصطدم مع من اتسمت ثقافته بالانغلاق بحكم ظرفها المكاني والزماني وعدم احتكاكها بشكل مباشر مع ثقافة غيرها.
هذا طبعا في بداية مرحلته الأولى حينما كان المجتمع خاصة في فترتي الستينيات والسبعينيات يشهد مرحلة من الانفتاح وتقبل ما هو جديد دون إضرار بالثوابت الراسخة في وجدان المجتمع ولكن في مرحلة الثمانينات والتسعينات وحتى المرحلة الحالية ظهرت فئات متشددة، والحمد لله أنها قليلة ولكنها مؤثرة بحكم ظروف المرحلة التي ظهرت فيها، ترفض الفنون وتحارب الإبداع وتشن عليهم من خلال مواقعهم التي يحتلونها أشد حملات الممانعة، وطل الأمير خالد الفيصل القلعة الصامدة رغم ضراوة الخصوم وظل صامدا في مواقفه مناصرا للإبداع والمبدعين ولم تتغير مواقفه وقناعاته من أنّ من حق المجتمع أن يكون في مكوناته من يؤمن بحق الإنسان في الاستمتاع بما يدخل على نفسه الفرحة والبهجة وأن يعيش حياة طبيعية يعشق الكلمة والطرب لكل عمل إبداعي طالما لم يصاحبها عمل يخدش الحياء أو يمس بثوابت الأخلاق التي حث عليها دين الإسلام العظيم المتسامح.
وقد تميز الأمير خالد الفيصل في إدارة الحكم حتى أصبح واحدا إن لم يكن الأول من المبدعين في هذا المجال منذ أن تسنم مقاليد إمارة منطقة عسير وهو الأول من أحفاد الملك عبد العزيز الذي تولى إمارة منطقة هامة في حجم منطقة عسير حيث أثبت ريادته في استحداث مدرسة جديدة في إدارة الحكم ولن أتحدث عن هذا الامر كثيرا فقد يحتاج حديثا طويلا لا تتسع له هذه المساحة.
فلقد عين أميرا شاعرا لإمارة منطقة شاعرية فشكلت هذه الثنائية مرحلة من أجمل مراحل حياة هذا الأمير ومرحلة هي من أهم مرحل تاريخ هذه المنطقة، هناك تفجرت في الأمير مواهب كانت مكنونة في طبيعة تكوينه الإنساني المبدع فرسم أجمل لوحاته الفنية التي تتزين بها اكبر المتاحف وصالونات بيوت الأثرياء.
نظم أجمل وأعظم قصائده وتغنى بها أكبر الفنانين من سعوديين وغيرهم وأصبحت عسير في عهده مقصدا لكبار الشعراء والفنانين والمبدعين، وشهدت المنطقة في عهد ولاية هذا الأمير حركة فنية وإبداعية أصبحت علامة بارزة لن يتجاوز إبراز جوانبها كل من سيؤرخ للحياة الفكرية والفنية والإبداعية في حاضر وقادم هذه المنطقة.
وإذا كان الأمير خالد الفيصل مبدعا أثر في حركة الإبداع على مستوى وطنه فإن طموحاته دائما لا تقف عند حدود، وهمه الدائم خدمة وطنه والتعريف به وبإنجازاته وإنجازات رجاله وعظمة أدوارهم في تاريخ الأمة التي ينتمي إليها هذا الوطن الذي شاء القدر أن يكون قبلة كل المسلمين ومهبط الوحي وموطن الرسالة، فأخذ على عاتقه فكرة إنشاء جائزة الملك فيصل وتأسيس مؤسسة تحمل اسم هذا الرجل العظيم وهي المؤسسة والجائزة الأولى على مستوى المملكة والأولى من حيث الاهمية والتأثير على المستويين العربي والإسلامي والثانية على مستوى العالم بعد جائزة نوبل، كان وراء إقامة هذا المشروع الفكري والحضاري الرائد هذا الرجل الذي خلق ليحتل موقعا بين الرواد أصحاب الريادات الخلاقة في العالم. وكما قلت سابقا فإن طموحات هذا الرجل لا تحدها حدود ولا تقف في سبيل تحقيقها حواجز فهو يملك مواهب وقدرات أصحاب الريادات، فلقد آلمه الوضع الذي وصل إليه حال الفكر العربي خاصة في العقود الأخيرة حيث انشغلت الأوطان العربية بهمومها الخاصة وأصبح المفكر العربي في حالة لا يستطيع ان يقوم بمسئولياته تجاه فكر وثقافة وحضارة أمته في ظل هذه الظروف، ففكر هذا الرجل الذي يعد من أبرز المهتمين بالحياة الفكرية في وطنه العربي وتربطه علاقات متينة مع معظم مفكري هذا الوطن على مختلف مشاربهم الفكرية أن يؤسس مؤسسة فكرية عربية تحت مسمى « مؤسسة الفكر العربي «
كان يدرك أن من أكثر المعضلات التي تواجه المفكر العربي هو المال الذي لا يستغني عنه قيام أي مشروع ناجح وكان يسمع من المفكرين والمثقفين العرب أن أصحاب الأموال العربية يبخلون على مساندة المشاريع الفكرية والحضارية وهذا أمر مؤسف لأن نتائجه ستكون عكسية على فكر وثقافة هذه الأمة. أخذ الأمير أمير الريادات وقرر العمل على تأسيس مؤسسة الفكر العربي وتواصل مع أصحاب الأموال العربية المؤمنين بالفكر الذي يحمله صاحب الفكرة وتأسست المؤسسة برأس مال عربي يوظف لمصلحة الفكر والثقافة العربية، فهي مؤسسة مستقلة ليس لأية حكومة عليها هيمنة أو سلطان، وأصبحت من أهم المؤسسات الفكرية العربية خدمة للفكر والثقافة العربية.
سوق عكاظ. في السنة الأولى من توليه إمارة منطقة مكة المكرمة قام وكعادته بما يملك من شجاعة إدارية ووعي بأهمية ثقافة المكان ومدلولاته التاريخية والفكرية في تاريخ هذه الأمة وتاريخ هذا الوطن الذي يحتل منه سوق عكاظ موقعه، بالشروع فورا في إعادة إحياء سوق عكاظ إلى ما كان عليه في تاريخ وثقافة هذا الوطن في عصريه الجاهلي والإسلامي والذي كان يرتاده نبي هذه الأمة قبل بعثته نبيا لها. لم نسمع صوتا معترضا من تلك الأصوات التي كانت ترفع عقيرتها اعتراضا على كل مشروع ثقافي أو حضاري أو إنساني، يعترضون بدون علم ومن كان له موقف فإن الأمير يدعوه إلى الحوار مقدما الحجج التي يرتكز إليها وهو سليل أسرة تملك من العلم الشرعي ما يمكنه من الدخول في حوار مع من لديه وجهة نظر أخرى، فبالحجة ومن خلال الحوار وهو يجيد كليهما أقنع من كان في نفسه شيء لا تدعمه الحجة. أصبح سوق عكاظ من أهم الملتقيات الثقافية والفكرية ليس على مستوى السعودية فحسب بل على مستوى الوطن العربي، لأن هذا السوق ارتبط بشعر العرب ولغتهم ومكان اجتماع أساطين الشعر العربي الذي يدرسه كل عربي في أي بلد كان موقعه.
هذا هو خالد الفيصل الأمير المبدع الإنسان.
* عضو مجلس الشورى السابق