المكتبة السعودية التي بدأت تضم عددا من الكتب تحت عنوان تعليم الفتيات، لا يزال الفراغ في رفوفها ينتظر الكثير جدا من الإنتاج الثقافي والفكري وحتى التاريخي الذي يمكن أن يثري هذا العنوان الشائك، والذي يعرف الكاتب أن الإنتاج فيه يعني فتح أحد أشد الأبواب إحكاما في الإغلاق. لكن المسافة من الداخل ليست كالمسافة من الخارج، والصوت الذي ينفذ من خلف الباب لا يعادل الصوت الذي يصل من خارجه، والدكتورة أميمة الخميس القاصة والأديبة السعودية المعروفة كتبت من داخل أسوار القصة، قصة تعليم البنات، فهي نزلت عن آخر عتباتها في المشوار الطويل، كمديرة إدارة مركزية في وزارة التربية والتعليم، بعد أن كانت قد بدأته طفلة في روضة مدرسية، وكتابها الصادر قبل عام في 2011 عن الانتشار العربي بعنوان (ماضي، مفرد، مذكر) في 237 صفحة من القطع المتوسط، لا يعد سيرة ذاتية ولا شهادة للتاريخ، إنما هو تجربة حية تنبض بالصوت والصورة والإحساس الكثيف لتعكس واقع تعليم البنات مجردا من كل محاولات التجميل التي يضعها البعض خوفا، أو عجزا في القراءة. (إلى اللواتي هناك, الجدار ليس هو كامل المشهد ! ثمة عالم خارجي بل عوالم أخرى إنسانية وخلاقة تكمن لتجابه السلطات المدمرة اللا إنسانية التي يصنعها البشر، ما من طريقة سوى أن نشرئب لنصنع كوة ضوء، بعدما تحولت المؤسسات التعليمية إلى جثث توقفت عن النمو، الإبداع، والتحليق الخلاق). تتصدر هذه الكلمات الكتاب، كما لو لم تكن إهداءً بل ضوء شمعة خافت على وشك أن ينطفئ أو للتو قد اشتعل، هذا النوع من الكتابة الإبداعية سوف تضع كاتبته القارئ على أرجوحة صغرى تتأرجح بين اليأس والأمل، كأنه الحلم الذي دخل عالم المؤسسة التعليمية للبنات وخرج منها على هيئة مرض، لا يزال عاجزا أن يبقى على آماله، فاشلا في أن يتقن يأسه منها.
الخميس التي تؤكد بثقة العارف بالألم أنه ليس هنالك أنثى في السعودية لم تترك عليها الرئاسة العامة لتعليم البنات ختمها أو «دمغتها»، تصف حال مفتشات الرئاسة (كن يجلن المدارس في المدن والمحافظات، يوزعن حقائب العفة ويراجعن الفضيلة وتعاليم ترتفع كأحجار حصن متين يحجب وعثاء العالم وشروره عن مدارس النساء) تنظم الكاتبة فكر الرئاسة العامة لتعليم البنات بأنها ماضوية ملتفة الرقبة للوراء، تحلم بقولبة تعليم البنات داخل نموذج ماضوي وطوباي، وأنها مذكرة في رؤيتها وأنظمتها باعتبار وحيد هو أن النساء بحكم المضاف إليه وتلزمهن ولاية ووصاية، وأخيرا هي مفردة أحادية الرأي بفكر وحداني عاجزا عن الانفتاح. (كانت تاء التأنيث في كلمة الرئاسة هي خدعة لمؤسسة ذكورية ثيوقراطية متجهمة، ولم يكن هناك وعي بين الموظفات عن حقوقهن الوظيفية.. ففي غياب الدور الإعلامي والمنظمات النسوية التي تبرز هذه الحقوق.. كانت المرأة مشغولة بأجندة أخرى غير الوعي بذاتها وحقوقها، فهي متورطة بكومة من الفتاوى حول عباء الكتف ونمص الحواجب وحقوق فراش الزوج والتحصن من زنا العطور). حجب البنات هو أحد أهم عناوين قصة التعليم في سرد الدكتورة لها، وهي كسيدة حجبت داخل المؤسسة تفسر الطمس المتصل للهوية بدءا من تغطية الوجه مرورا بالأسوار الإسمنتية الشاهقة للمدرسة وليس ختاما بمناداة الحارس للفتاة باسم عائلتها لا باسمها عند الانصراف من الدوام، لتوقظ في القارئ الانتباه إلى مفارقة جارحة تكمن أن مدارس الأولاد تسمى بأسماء الصحابة أو الملوك أو الأحياء التي تتواجد فيها، بينما تبقى مدارس البنات من الابتدائية الأولى إلى الابتدائية المائتين، لتبقى النساء رقما مبهما بلا هوية.
التعليم الذي عرفه الإنسان ليتقدم كن البنات يعرفنه ليتأخرن، فعبقريات العقاد التي كانت تدرس في مناهج المطالعة قد سحبت ليحل محلها كتاب للشيخ الألباني من عدة أبواب محتشدة بالآي القرآني والأحاديث الشريفة، تفسر لماذا المرأة ناقصة عقل ولا تجوز ولايتها ويجب أن تقبل وصاية الرجل عليها، والمفارقة التي عاشتها الخميس بأنها هي التي درست العبقريات عندما كانت طالبة، صارت ملزمة بتدريس كتاب الألباني حينما أصبحت معلمة.
العناوين الفرعية التي ترأست تعاميم الرئاسة لمدارس البنات، التي تصدر عنها كمؤسسة تربوية كهنوتية لم تكتفي بمنع كل أنواع الزينة بما فيها شرائط الشعر الملونة والعطور وحظر المرايا داخل المدارس، بل تتطلب أيضا تنظيم حملات تفتيش مفاجأة لحقائب الطالبات خشية أن تحمل إحداهن أي من المحرمات عطرا، ديوان شعر أو قصة، لم تكتفي بإلزام البنات بعباءة الرأس السوداء الخالية من كل لون، وغطاء الوجه الكاتم الذي لا يشف عن أي ملمح لها، وقفازات اليدين أحيانا كي يستحيل تمييز هوية الطالبة، بل إنها تشترط أيضا أن تتناوب معلمتين كل يوم للوقوف على باب المدرسة أثناء خروج الطالبات للتدقيق في تنفيذ الأوامر ومن تخالف الشروط منهن محاولة التسلل خلسة عند الخروج، يتم بخ عبائتها ببخاخ أحمر كي تصاب بالخزي وهي سائرة في الشارع!
الأديبة التي تدرك تربية الذات على ذائقة فنية تعرف فداحة تغييب الفنون من المدارس، لكنها تعيد زرع المفاجآت الحزينة كألغام ينفجر فيها القارئ من سطر لآخر، فمؤسسة التعليم لم تحرم الفتيات من كل لون وصوت وصورة تخبرها معنى الحياة فقط، بل إن المسرح الذي منعت فيه الطالبات من تمثيل الدور الذكوري امتد في المنع من كل شيء، ليسمح ببقاء وتمثيل مشهد مسرحي واحد وحيد فقط، هو مشهد تكفين الميت يؤدى في الطابور الصباحي لإيقاظ الورع والتقوى يتخلله أناشيد عن عذاب القبر ! لنعرف كقراء أن بناتنا خرجنا من بيوتنا ليصبحن على الموت يوميا. لم تكن الطالبة كفتاة وحدها من تعاني من الهوس الذكوري في طمسها، هذا ما تنبه له الكاتبة، إنها مسألة تتعلق بكل أنثى مهما بلغت من العلم والعمل والعمر الطويل، فالولي الإداري ليست نكتة تطلقها الخميس لنا، إنه أحد حقائق المؤسسة التعليمية، فلن يستطيع أي مسؤول رجل أن يحادث «مديرة» بشأن أي مشروع أو قضية تربوية إلا أن يمر من خلال وليها الإداري يعني مديرها الرجالي، وأي مديرة تتجاوز هذا الولي ستتعرض للتحقيق بدورها . الطالبات والمعلمات والمديرات، داخل المدرسة والمراكز الإدارية وداخل المؤسسة التعليمية بأكملها على خط واحد، صف الإناث جميعا تحت سقف الماضي المفرد المذكر، كل الظواهر فيها تؤكد حقيقة الحرملك التعليمي، وقصة التعليم التي عاينتها وعانتها الأدبية المعروفة لم تنتهي عندما وصلت إلى خطاب رسمي موجه من مدير إلى لجنة نسائية، مكتوبا بصيغة توبيخية (أنتن كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال).
الرياض