الطريق إلى الصين رحلة عجائبيّة يعيشها من يسافر جوًّا، حيث يشد المسافر منظر سلاسل الجبال الشاهقة شدّاً.. فلا يعرف أيفتح عينيه أم يغلقهما لأمن النظر إلى رهبة وجلال الجبال!.. جبال عالية تكاد قممها تلامس أجنحة الطائرة.. يغطي بعضها الثلج الذي يُحيّي المسافرين ببرود كلّما مرّوا بها، وينظر بعضها إلى الطائرة والمسافرين بغرابة! لحظة الوصول إلى مطار بكين، ومنذ الوهلة الأولى يدرك المسافر أن المطار لا يغرق في البهرجة ولا يهتم فيما يبدو بإمتاع النظر.. كل شيء في المطار يتحرك بسرعة وخفّة وديناميكية ونظام، ولكن دون عناية كبيرة بأحاسيس تخلق البهجة، أو مشاعر توقظ في الإنسان نعمة تذوّق الجمال.. وذا مما يزيد يقين من يزور الصين للمرة الأولى ومنذ اللحظة الأولى بأن لا وقت في الصين إلا للعمل.. أمّا سوق المطار (الحرّة)، فيبدو أنها ليست حرّة فيما يتعلق بأوقات دوامها.. إذ تفاجأت في رحلة العودة إلى المملكة أنها تغلق أبوابها في وجه المسافرين قبل منتصف الليل! عدا وجود القليل جدًا من المقاهي والحوانيت المفتوحة.
الصين بلد العجائب، وبكّين إحداها.. بُنيت مدينة بكين القديمة في عهد (يونغ له- 1403-1425م) وينحدر هذا الإمبراطور من أسرة (مينغ) الملكيّة.. إلا أن بكين مدينة قديمة وفتيّة في آن، حيث تجمع عبق التاريخ وأحدث وجوه تكنولوجيا العصر.. ينام بحضنها جزءٌ من سور الصين العظيم، وتزدحم عروقها بشوارع مزدحمة ممتدّة
وبنايات شاهقة هنا وهناك.. بنايات تناطح في طولها الجبال، يُقال إن تركيب بعضها قد لا يتجاوز الثماني وأربعين ساعة، فبناء برج شاهق في بكين قد لا يستغرق يومين!.. أو هكذا قيل لنا.. ولا أعلم إن كانت ثمّة علاقة تاريخية أو فسيولوجية بين طول تلك الجبال والبنايات الشاهقة وبين أطوال الصينيين التي اشتهرت بالقصر والبنية الدقيقة؟! أم أن هذا اللغز يُعد مما يمُكن تصنيفه ضمن الأسرار والعجائب الصينية العديدة.
الصين بلد المعجزات صناعياً، ولكن هل هناك في عالم البناء والتعمير أبراج (أصلية) وأخرى (تقليد)؟.. هذا ما حدّثتني به نفسي وأنا أنظر بذهول إلى عمائر كاملة بُنيت فوق أبراج عالية!
في المقابل يُفاجئ زائر بكين - حين يطول به السير خارج حدود العمران - منظر أكواخ صغيرة أو (صَنادِق)، تتكوّن من غرفة واحدة مصنوعة من ألواح الخشب والصفائح المعدنية.. تقيم في كل منها عائلة بأكملها، وبالقرب من الكوخ مصنع صغير تعمل فيه العائلة حيث لا وقت إلا للعمل.. عند الكوخ تقف عجلتين يعلوهما صندوق (للعائلة)، وهي طريقة تستخدم للتنقّل في الصين بلد صناعة السيارات التي تغرق السوق العالمي بالسيارات وقطع غيارها.. والأكثر غرابة فيما يتعلق بعالم السيارات الصينية أننا مررنا يومًا بسيارة تحترق بأكملها في مشهد مروّع. كنا نقف في إشارة مرور والسيارة المشتعلة تقف قرب رصيف جانبي ولا تبعد عنا أكثر من أمتار ولكن إشارة المرور ظلت حمراء ولم تفتح عينيها إلا في وقتها المحدد سلفًا! والأعجب هو ما سمعته من بعض المقيمين في الصين من أن هذا المشهد يتكرر عادة حيث تحترق السيارات في مشاهد مماثلة لم تعد مما يهز إشارات المرور الصينية، أو يجعلها تغيّر رأيها رأفةً بحياة الإنسان صانع هذه السيارات.. الازدحام الخانق في الشوارع من المناظر التي تألفها العين بسرعة في بكين، فأعداد البشر والسيارات كثيرة والسرعة ممنوعة، بل إن عقوبتها الإعدام!.. فالقوانين صارمة ولا مجال (للواسطة) أو الشُفعة بالقرب من سور الصين.. أما عقوبة الإعدام في بلد (سور الصين العظيم) فمن العقوبات المألوفة التي يبدو أنها لم تعد تخيف الصينيين إلى درجة الموت!.. والصين بلد العجائب.
آثار طريق الحرير التجاري الذي امتدّ زمنًا طويلاً من الصين إلى الشرق لم تزل باقية في تركيبة الإنسان الصيني.. حتى يكاد يُخيّل إلى زائر الصين أن الصينيين يتنفّسون التجارة والبيع والشراء كما يتنفسون الهواء.. أسواق الصين التجارية أسواق مميّزة ببضائعها وبزخمها الخاص، حيث تُوجد تحت سقفها البضائع بمختلف أنواعها من الأقمشة الحريرية ذات النقوش المُنمنمة إلى الصناعات الإلكترونية الحديثة.. بضائع بمختلف النوعيّات من حيث جودة التقليد، فهناك المتقنة التي تُصنّف درجة أولى، وهناك الأقل جودة وهي الأكثر تصديرًا إلى الخارج فيما يبدو، خصوصاًً إلى السوق الخليجي الذي يغرق بالصناعات الصينية المقلّدة.. ولا أجمل من لعبة (طيران الأصفار) في الحوانيت الصينية.. إذ يتحول سعر السلعة فجأة من خمسمائة (يوان صيني) إلى خمسين وربما أقل، ولكن بعد كثير من الجدل والأخذ والرد والإقدام والإحجام بين البائعين والزبائن.. وبالتالي فإن من لا صبر له ولا خبرة بكثرة الأخذ والرد و (اللكاعة) لا يُنصح بزيارة تلك الأسواق.. أما شارع (وانغفو جينغ) الذي يمتد لأكثر من كيلو
ونصف الكيلو فيُعد من أشهر الشوارع التجارية في بكين.. وهو شارع يضم سوقًا تجاريًا ومجموعة من الفنادق
والمطاعم والمقاهي الراقية، ومما يلفت النظر في هذا الشارع أنه مخصص للمشاة فقط حيث لا يُسمح للسيارات بالسير فيه.
من معالم بكين السياحية المهمة القصر الإمبراطوري أو (المدينة المُحرّمة) التي تتربّع قلب بكين، ويُصنّف هذا المعلم ضمن التراث الثقافي العالمي وفقًا لمنظمة اليونيسكو.. سكن هذا القصر الذي استغرق تشييده أربعة عشر عامًا (1406-1420م) مجموعة من الأباطرة من أسرتي (مينغ)، ثم (تشينغ) ويحوي الكثير من الآثار والتحف الإمبراطورية التي حافظ عليها الصينيون على مر الزمن، تمسّكًا منهم بهويتهم وتراثهم الذي تحدّى الزمن عبر قرون طويلة.. يتوافد على هذا المعلم الكثير من السيّاح من جميع أرجاء العالم، وتطوف بين أرجائه الأطياف القديمة
ووجوه الأباطرة بملابسهم المزركشة وشعورهم المعقوصة على هيئة ضفائر طويلة، والكثير من الأسرار والألغاز المحفوظة في صندوق الزمن.. ولا عجب من اهتمام السيّاح بهذا المعلم التراثي المُبهر وغيره من الآثار الصامدة في شتى أرجاء العالم، ولكن العجب من أن التراث لا يُلتفت إليه لدينا، ولا يُحافظ عليه ككنز وثروة وطنيّة، بالرغم من أصالته وجماله وأهميّته القصوى! وهذا ممّا يخطر في البال منذ اللحظة الأولى لزيارة هذا الأثر التاريخي المُتشبّث بالأرض ورائحة التاريخ.
أمّا زوّار بكين الذين لم يذهبوا إلى (شارع الأكل العجيب) كما يُسمى، فإنهم سيفقدون الكثير من متعة المغامرة، غير محسوبة النتائج، أحيانًا.. شارع (الأكل العجيب) حيث يلتقي الناس، من سيّاح وعوائل وأحبّة بالحيوانات
والحشرات على كافة أشكالها وأنواعها، من الديدان إلى العقارب مرورًا بالأفاعي والخنافس وخلافه، فينتقي الناس ما يشاؤون منها للأكل.. وللناس فيما يأكلون مذاهب، ولا أعجب في بلد العجائب من منظر حبيبة تتكئ في دلال على كتف حبيبها وهي تنتقي ثعبانًا صغيرًا ظريفًا، فيخرجه البائع في الحال من قفص الثعابين - حُبًّا وكرامةً بالمحبّين - ثم يشويه أو يطبخه بالطريقة التي تختارها الحبيبة المُدلّلة! والصين بلد العجائب.
ويبقى سور الصين الذي بُني في القرن الرابع الميلادي - يدويًّا وبدون الاستعانة بآلات - من أهم عجائب الصين، وكنت قد أشرت في (الجزء الأول) من هذا المقال إلى هذا السور العملاق، وإلى فقدان حريّة الاتصال بالعالم الخارجي عبر شبكات (الإنترنت) التي تلف الفضاء الرحب.. يحدث هذا في الصين اليوم، حيث يُفاجأ زائرو الصين باستحالة التواصل مع العالم الخارجي عبر شبكات التواصل الاجتماعي من مثل (تويتر) وغيره! فيعجب الزوّار من انعدام هذه الحريّة في بلد يُصدّر إلى العالم أحدث وسائل وطُرق التكنولوجيا الحديثة!
إن إنسان الصين العظيم الذي بنى هذا السور العجائبي يبدو أنه قد حُبس داخله طيلة هذه القرون.. وربما يكون إحساسه بهذا القيد مما دفعه بقوّة إلى تصدير ما تصنعه يداه بكثافة إلى خارج السور.. فما تصنعه يداه هو جزء منه يتنفّس بحريّة خارج الأسوار.. وربما تكون قيود هذه الأسوار العالية مما دفع الصينيين أيضًا إلى الخروج من الصين بأعداد كبيرة للعمل أو للبحث عن حريةٍ ما خارج حدود الأسوار.. وهذا هو فعل الأسوار العالية مع إنسانها الذي يصنعها بيديه.. فالأسوار العالية تجعل الحياة ضيّقة مهما رحُبت أرجاء المكان، وتمنح الإنسان شغفًا مستمرًّا يدفعه إلى تخطّي حدود الأسوار والبحث عن الحرية خارج حدود قسوة الأسوار وقيودها.
إن إنسان الصين العظيم هو صانع العجائب القديمة والمعجزات التكنولوجية الحديثة.. إنسان الصين العظيم هو الباحث بشغف عمّا هو خارج سور الصين العظيم.. ولكلٍّ منّا أسواره العالية التي صنعتها يداه، فشقيَ بها، وحُبسَ داخل نمنماتها وألغازها وأسرارها وزركشاتها الملوّنة بألوان صارخة جدًا.. للصينيين سورهم العالي العظيم ولنا أسوارنا.
1 أكتوبر 2013
- جدة