عُرفت الصحافة الورقيّة في عالمنا العربي منذ أواخر القرن الثامن عشر، عندما أصدرت حملةُ نابليون على مصر جريدةَ «الحوادث»، تلتها جريدةُ «الوقائع» في عهد محمد علي، ثم تبعتهما صحفٌ أخرى في المغرب العربي.
وعُرفت الإذاعات باللغة العربية مطلع الثلاثينيات الميلادية، مع إذاعتي»باري» الإيطالية و»لندن» ثم تبعتهما إذاعة القاهرة وموسكو وبرلين، وغيرُها.
وعرف التليفزيون باللغة العربية في منتصف الخمسينيات الميلادية، مع افتتاح تليفزيون العراق ثم الجزائر ولبنان.
وعرفت الاستخدامات الناعمة للشبكة العنكبوتية، كمواقع الوسائط الاجتماعية والبريد الإلكتروني والمعلومات، بدءاً من أوائل التسعينات من القرن الماضي، ثم تتالت التطبيقات دون توقّف في عالم الاتصالات والمعلومات والإعلام والاقتصاد والعلوم والطب، ومن قبل ذلك الاستخدامات العسكرية وغيرها.
ومنذ بدأت تلك الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، صار التوافق على أن يُؤدى الإعلام - في النشرات والحوارات والبرامج الرسمية - بلغة عربية فصيحة مبسّطة، وظهرت مدرسة إذاعة لندن وصوت أمريكا والشرق الأدنى، متألّقةً بشخصيّات إذاعيّة مرموقة مثل منير شمّاء وحسن الكرمي وعيسى خليل صبّاغ وعمر الخطيب، يجمعون بين طلاوةِ الصوت ونداوةِ الأداء وسلامةِ اللفظ، وانبرى علماء العربية في المشرق والمغرب العربي ينتفضون غيرة وثأراً من كل من ينال عبر تلك الوسائل من شرف اللغة العربية، أو يمسُّ من سموّها أو يُهين سيادتها، بوصفها لغةَ العرب ووعاءَ القرآن الكريم.
ومنذ ذلك الزمن ولعدة عقود، ظهرت نظريّة «اللغة الثالثة» في وسائل الإعلام، تحافظ عليها منذ الأربعينيات، وكان يقصد بها اللغةََ العربيةَ المبسّطةَ، المستخدمةَ في النشرات والحوارات والبرامج الإذاعية والتليفزيونية، وفي المطبوعات الصحفية، خاليةً من اللحن والكلمات الأجنبية.
لكن الإعلام سرعان ما انزلق نحو العامية في كثير من قنواته، وبعد أن كان ذلك الانزلاقُ يقتصر على بعض القنوات الإعلامية الأهليةِ، لم تخل الجهات الإعلامية الحكومية -في لبنان ومصر مثلاً- من الوقوع في اللحن والعجمة، وبدأت بعض القنوات الرسمية وبخاصة في المغرب العربي، بتلبية النزعات الجهوية نحو الذاتيّة، فخصّصت محطّات مستقلة تتحدث بلهجات ولغات متفرعة من العربية أو محاذيةٍ لها.
ثم أخذ هذا الانحراف منحنىً أخطر عندما تحوّلت اللغة الثالثة، التي تحدثنا عنها قبل قليل، إلى خليط من الألفاظ العربية والأعجمية، وبخاصة في ميدان البرمجيّات والتطبيقات العلمية، وذلك بالرغم من وجود كلمات عربية سلسة بديلة.
لم يقتصر التأثير السلبي للعولمة اللغوية على الإعلام وتقنية المعلومات، فلقد بدأ غزوُ العجمة والعامية يلوّث حياتنا العامة بكل تفاصيلها، حتى اقتربت اللغةُ العربية من أن تكون غريبة في بلادها، وكان الاختلاط بالعمالة الأجنبية من أكثر الملوّثات اللغوية في بيوتنا ومع أطفالنا، وبدلاً من أن يتعلّم الوافدون لغتنا صرنا نتبعهم في وضع لغة وسيطة غايةٍ في القبح، منفّرةٍ للذوق العام، وهكذا رأينا أن العولمة قد دخلت إلى مجتمعنا بحجة الحاجة إلى العالم، بينما تسلّلت العجمة وانتشرت العامية بإرادتنا، ودون أن يفرضها أحد علينا.
أيها الإخوة والأخوات:
لقد برز في هذه البلاد عشراتٌ من العلماء، نذروا أنفسهم للكلمة الفصيحة، ونافحوا -بإخلاص- ضدّ الرطانة، وطبّقوها على أنفسهم في تخاطبهم وفي بيوتهم، عرفنا منهم في عصرنا الحديث حمد الجاسر، وعبدالقدوس الأنصاري، وعبدالله بن خميس، وأحمد عبدالغفور عطّار، وعبدالله بن إدريس، وأبا تراب الظاهري، ود. محمود زيني، ود. أحمد الضبيب، ود. راشد المبارك، ود. عبدالله الغذامي، ود. عوض القوزي وغيرَهم، حتى إن أحدهم لحظ مرة همزةَ الوصل مقطوعةً في عنوان ندوة حوار كبرى شارك فيها، ولم يهدأ له خاطر حتى أزيلت، وظل هؤلاء وغيرهم من علماء الشريعة واللغة والأدب المتخصصين في جامعاتنا، يشعرون بالضجر عند سماع اللحن اللغوي في التلاوة والقول والخطب والبرامج والمؤتمرات السياسية، ويتأفّفون من مخرجات التعليم، ويتذمّرون من الأخطاء الإملائية والإعرابية في النصوص، وسجّل البعض منهم المرافعاتِ والحججَ المقنعة، مؤكّدةً على قدسيّة الفصحى، وعلى ثراء اشتقاقاتها لاستيعاب المعاني والمستجدات.
هنا في المجتمع الثقافي والتعليمي، لدينا حراكٌ واع يرفع لواء التنبيه، ولدينا صحوةٌ مجتمعية تُشدّد على أهميّة الحفاظ على الهوية الإسلامية والقوميّة للأمة، وعندنا وعيٌ نخبويٌ تمثّله مثل هذه الندوة وهذه المجموعة من الكتّاب والأدباء والإعلاميين، وهناك دعواتٌ لم تتوقّف منذ عقود ولم يعارضها إلا القليل، لإنشاء مجمع لغوي هنا، يحافظ على حيويّة اللغة، ويخترع الاشتقاقات، ويوجد الحلول لأسماء المسمّيات والمبتكرات.
غير أن من يرفعون لواء الدفاع عن اللغة العربية يظلّون أقليّة في أعدادهم وإن علت أصواتهم بالحجج والمنطق والموضوعيّة، كما أن أنصار التغريب والعولمة الرقمية والربيع الإلكتروني يبقون أقليّة أيضاً، ولا بدّ أن بين الفريقين أغلبيّةً صامتةً تتفرّج، وربما يكون من هذه الأغلبيّة نسبة لا تأبه بالأمر من قريب أو من بعيد.
فهل من سبيل للوصول إلى كلمة سواء بين هؤلاء الفرقاء؟.
باستماعي ألى الورقات المقدّمة للندوة، لا أجد في وسعي ما يمكن إضافته، فكل ورقة طرقت الموضوع من زاوية مكملة للأخرى، والكل متفق على مزاحمة العجمة الإلكترونية وزحفها ومنافستها للعربية في عقر دارها، لدرجة أن البعض من المشاركين يبدي من التشاؤم ما يخشى معه انقراض العربية بالتدريج، نتيجة طغيان الإنجليزية بالذات على الحياة اليومية عند معظم الشعوب، ويُلقون باللائمة على العولمة، وعلى موجة التغريب التي بدأت تجتاح المفاصل الثقافية للأمة، ومن المتحدثين مَن توقّع نشأةَ لغة عربية مهجّنة ثالثة تكون لغةَ الإعلام والتواصل داخل المجتمعات على حساب اللغة الفصيحة.
ولا بد من التأكيد، على أن محدثكم من الداعين للغة العربية المستقيمة في وسائل الإعلام، والمحافظين على سلامة اللسان الإعلامي من طغيان العاميّة ومن تلوّث بعض المفردات بالكلمات الأعجمية إلا عندما تتطلّب الضرورة ذلك، وعندما يحتدم السجال بين الفرقاء يبقى مناصراً للغة الأم، لكنه ليس ممن يرى أن تبقى الأمة على حال من جَلْد الذات، أو خوف مفرط على هويّتها اللغوية.
إن من الغريب فعلاً، أن يصل الأمر ببعض أبناء الجيل إلى امتهان لغة القرآن الكريم، بينما تلقى اللغة العربية التكريم في مجتمعات تبدأ شرقاً من الملايو والصين، وشمالاً في روسيا وبولندا، وانتهاءً بالجامعات والمساجد في أوروبا وكندا وأمريكا.
ما ينبغي أن نحدّده في هذه الندوة، هو ضبطُ مصطلح العنوان أولاً، ثم التأكيدُ على عدم استساغة أمور أربعة:
1 - ظاهرة العجمة أن تتسيّد مفردات التقنية والتعليم والاقتصاد والإعلام، أو أن يكون التخاطب في مجتمعنا العربي المسلم بغير اللغة العربية، دون ضرورة.
2 - أن نرى شباب الجيل، وقد صاروا يتحدثون بلغة وسيطة، مختلطةِِ الكلمات غريبةِِ المصطلحات .
3 - أن يُبتذَل البث الفضائي والبرامج بأصناف اللهجات.
4 - أو أن تُحمّل التقنيةُ والعولمةُ وزر الانفلات اللغوي، فالمشكلة تكمن في بصائر المستخدمين وثقتهم بتراثهم، أكثر من كونها مسؤوليّةَ متسبّب أو سبب آخر.
لأن كانت العاميّة قد تسرّبت إلى التخاطب عبر العصور منذ نهاية العصر الأموي، وصارت النخبة من الأدباء تمسك بأطراف الفصحى بما يسمّى في علم البلاغة «السهل الممتنع» في مثل كتابات ابن المقفّع والجاحظ وعبدالحميد الكاتب والعقاد والزيّات والرافعي وطه حسين، فإن من غير المعقول أن نتوقّع من جيلنا الحاضر أن يستخدم مفردات معقّدة، وإن غاية ما ننادي به و نرجو أن يسود بيننا اليوم، وأن تُعنى به هذه الندوة، هو استخدام اللغة العربية المبسّطة، بالحدّ الضروري من فصاحة غير متكلّفة، والابتعاد عن العجمة، وعدم إفساح المجال للعامية أن تسيطر على مناهج التعليم وبرامج الإعلام، وأن يعود لوهج «اللغة الثالثة» ما تعوّدناه منها في «الزمن الجميل» للإعلام.
لقد استفادت الدولة في عصر المأمون ومن تلاه، من التمازج الثقافي مع الحضارات، وكانت الترجمةُ آنذاك من السريانية والفارسية واليونانية، رافد إثراء وإغناء غزير للغة العربية لا مصدر خطر عليها، فانتقلت اللغة العربية معها من لغة الشعر والأدب إلى لغة العلوم والتقانة والفلسفة، ولم يضِرّ العربية حينها بشيء، وما أحرانا اليوم أن نستكشف أوجه الشبَه بين عصرهم ذاك وعصرنا هذا، وأن نتوصّل إلى حلّ توافقيّ، لا يموت الذئب فيه ولا تفنى الغنم، حلّ عملي يُحافظ على اللغة العربية الفصيحة، ولا يحرم المجتمعات من التقنية، حلّ واقعيّ لا يقوم على التنظير والافتراضات، ويحقق في الوقت نفسه الإفادة من معطيات العلم الحديث.
إن من المرجو، أن تضع جامعة الأميرة نورة يدها مع الجميع، انطلاقاً من هذه الندوة ومما سبقها من ندوات مماثلة في الجامعات الشقيقة، في جهد مشترك لا تتوقف التوصياتُ معه عند حد الجلسة الختامية، بل تنطلقُ إلى آفاق عمليّة قابلة للتنفيذ، وهنا أرجو من الجامعة أن تتأمل في هذه الأفكار الإضافية:
- الأولى: أن تطالب الجامعة بأن يكون المجمَعُ اللغوي المزمعُ إنشاؤه قريباً مجمعاً لغويّاً علميّاً يمازج بين التقنية والبحوث اللغوية ذات الصلة.
- الثانية: أن تتبنّى الجامعة إنشاء مدرسة ابتدائيّة تجريبية للبنات، تقوم على تدريس العلوم جميعِها بالفصحى، بحيث تكون المدرسة نواة مركز بحثي لغوي مصغّر، يعالج المفردات التقنية بلغة عربية مطوّرة، وتكونُ المدرسة على مصالحة مع التقنية لا على مفارقة مع معطياتها، مستفيدةً في هذا الاتجاه من تطبيقات سابقة في بعض الدول، ومن تجارب معروفة في بعض المنازل السعودية.
- الثالثة: أن تتبنّى الجامعة إنتاج برنامج إعلامي تربوي يقوم على تقديم المخترعات والعلوم وشرح التقنية الحديثة للناشئة بلسان عربي مبين، مستفيدة من تجارب إعلامية معروفة ناجحة، شاركت فيها المملكة.
- الرابعة: أن تطالب الجامعةُ مكتبَ التربية العربي، و مدينةَ الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بأن تُخضعا نتائج جهودهما للتطبيق العام.
- الخامسة: أن تكون هذه الجامعة نفسُها، بمدّرساتها وطالباتها ومنسوبيها، ميداناً للتطبيق العملي المتدرّج، للتحدّث باللغة العربية في الدروس والمحاضرات والمعامل والتواصل الاجتماعي، بل وربما في شروط التخرّج، لنجعل هذا الحَرَم الجامعي الجديد حرزاً للغة العربية ومأزِراً لها، و دارةً حاضنةً للتغريد بالفصحى، ومختبراً لإذابة اللهجات المحلية لصالح اللغة الأم دون تقعّر، ولتكون الجامعةُ قدوةً مثاليّة للمجتمع في احترام العربية والإعلاء من شأنها، ونبذ العاميّة والرطانة في فصولها، وكم هو سارّ أن عدداً من عضوات هيئة التدريس وبخاصةٍ في قسم اللغة العربية يلتزمن بذلك في الخطاب اليومي المعتاد، وأجزم بأن هذا الالتزام قد انتقل إلى بيوتهنّ وبين الأولاد.
- السادسة: أن تتبنّى الجامعةُ مادةً في مناهجها الدراسية تقوم على توظيف التقنية في خدمة اللغة العربية وبالعكس، مع تعريف الطالبات بالمصطلحات الجديدة المعرّبة، مما تنتجه المجامع في هذا الشأن.
وبعد؛ المرجوّ ألا تذهب توصياتُ هذه الندوة أدراج الرياح كبعض سابقاتها، وألا تكون مجرّد رقم عدديّ يضاف إلى الندوات الورقية التي تعقد هنا وهناك ثم تُنسى، مع الامتنان الجمّ لاختياري في موقف يتعدّى أفقي القاصي، والسلام عليكم.
- الرياض