ويأتي الاحتكام إلى السياقات المقامية والتاريخية للملفوظات الواصفة للمرأة في مقدمة ما تتكئ عليه المانع في نقض المحمولات المنتقصة للمرأة والمضادة لها. فالقول –مثلاً- بشح القيم الإنسانية التي يمكن أن تُمتَدَح بها المرأة في الرثاء لها وأنها تُمْدَح بما لا يُمْدَح به الرجل (ذهب إلى هذا القول كل من الحصري في كتابه «زهر الآداب» وابن رشيق في «العمدة» وابن الأثير في «المثل السائر» انظر إحالة سعاد المانع عليهم في بحثها: الشعر والنقد والمرأة: دراسات لسمات المرأة المعنوية في الشعر العربي القديم وفي التنظيرات النقدية، ص319) يخرج –في نقض المانع له- عن حساب المجالات الشعرية من حيث ما لها من قيم خاصة. ولذلك يغدو –فيما تستشهد- بكاء الرجال الشجعان –مثلاً- وتهالكهم مقبولاً منهم في الغزل. وكما تختلف سياقات القول تختلف مجالات قيم المدح وسياقاته ولهذا فإن كلام النقاد القدامى المفقر للقيم المدحية للمرأة ناتج عن خلطهم بين صورة المرأة في الغزل وصورتها في مجالات الحياة الأخرى، فوصف جميل لمحبوبته بالبخل وكعب بن زهير بعدم وفاء محبوبته بالوعد مقصوران على الغزل، وهما قيمة عليا للمرأة في هذا السياق وحده لدلالتهما على ترفُّع المرأة وعفافها، لكن البخل وإخلاف الوعد في العموم مذمومان عند المرأة والرجل على حد سواء.
وقد كان التفسير بالسياق لدى الدكتورة المانع منظوراً لتأويلها بعض المعاني المرصودة لدى الجاحظ في موقف انحيازه ضد المرأة، وذلك بنسبتها إلى سياق الهزل المألوف –بين حين وآخر- في مؤلفاته. «ومن ثم فورود ذكر المرأة في سياق الجنس، أو في سياق عدد من الطرائف والقصص الفكاهي تتسم فيها المرأة بالحمق أو العي أو اللكنة لا يمكن النظر إليه على أنه يصوِّر اتجاهاً متحيزاً عند الجاحظ عن المرأة. فالحديث عن الجنس يرد في كثير من الأحيان، بصورة فكاهية أو ساخرة عن الرجل، والطرائف التي تحتويها كتب الجاحظ يرد كثير منها متصلاً بوصف رجال بالحمق أو اللكنة أو العي أو غير ذلك، وليس بالأمر النادر عند الجاحظ أن يورد لبعض النساء في ذم أزواجهن قولاً ساخراً يتصل بالجسد».
***
ولئن كان وقوف المانع ضد التعميم قرين رغبتها في الانعتاق باتجاه المعرفي في دراساتها النقدية النسوية، فإن الكشف لصور التعميم يجاوز لديها تحاشي التقويم والإيديولوجيا ويجاوز الاستقراء الناقص إلى التأويل المتعسف أو ما يسميه أمبرتو إيكو التأويل المفرط Overinterpretation. ومن أمثلة ذلك وقوفها على تأويل ميجان الرويلي لقول أخت لقمان: «إني امرأة محمّقة...» الذي يورده في مقالته «الحيوان بين المرأة والبيان» مستدلاً به على أن هذه المرأة تتصف بالحمق، ومحيلاً إياه على إيراد الجاحظ له، ضمن ما يورد من مقولات مصنّفة لدى الرويلي بما يسلب المرأة البيان ويحصر وظيفتها في الجنس. لكن المعنى لدى سعاد المانع مختلف «فالمحمق هنا معناها من يولد لها أولاد حمقى وقد كان زوج أخت لقمان محمقاً كما تذكر هذه الأسطورة فهو سبب حمق الأولاد، ولو كانت هي الحمقاء أو هي سبب حمق الأولاد لما أمَّلت أن يأتيها ولد نجيب من لقمان».
ومثل ذلك تأويل ميجان الرويلي في مقالته نفسها لوصية ضرار بن عمرو الضبي لابنته عند زواجها: «يا بنية أمسكي عليك الفضلين، قالت وما الفضلين؟ قال: فضل الغلمة وفضل الكلام». فليس في هذه الوصية من وجهة نظر المانع أي تمييز ضدي للمرأة يسلبها البيان ويحصرها في الجنس، لأن «معنى الفضل هنا ليس هو المعنى المتداول للكلمة، ولكن معناها الفائض من الشيء أو الزائد. والزائد من هذين الأمرين هو ما يوصي هذا الأب ابنته بتركه. ومثل هذه الوصية تقدم لرجل».
وتأويل عبد الله الغذامي للمثل المتداول حديثاً في نجد «البنت ما لها إلا السّتر أو القبر» ولآخر متداول في الحجاز «البنت للجوز ولا للقوز» بأنهما يدلان على أن البنت عورة لا بد لها من الستر، وهذا الستر يتحدد إما بالزوج أو بالقبر. فالمانع ترى أن النظر في صيغة المَثَلَين لا يجعل أحدهما يطابق الآخر فالأول يستخدم لفظ «الستر» وللستر دلالات كثيرة ولا يقتصر على الكناية عن الزوج، وكلمة «القبر» تؤكد فكرة «الستر» أكثر مما تعبر عن الرغبة في موت البنت، مثلما ترد في بيت أبي فراس «لنا الصدر دون العالمين أو القبر» لتؤكد ضرورة حصول الصدارة.
***
وفي مقابل الأشعار والأمثال والقصص والمواقف والآراء التي تنتقص –في التراث العربي الإسلامي- من كفاءة المرأة العقلية والبيانية والسلوكية والأخلاقية والعملية، وتصل بين قيمتها وبين جسدها، وبين الخوف منها وبين الخوف عليها، وبينها وبين العار والغواية والخيانة... إلخ. تحشد الدكتورة المانع عديداً من الأشعار والقصص والمقولات والمواقف التي تدلِّل على ضد ذلك. فهناك أشعار تنسب الشخص إلى أمه في معرض المدح أو الفخر، وأخرى تشف عن عاطفة حميمة في التحاور مع الابنة أو الزوجة، واعتزاز الفارس بإرضائه للنساء، وجدل الشاعر مع العاذلات الذي ينم عن وجود المرأة القوي وصراعه معها في الرأي، وتردُّدُ أسماء نساء كن يسهمن في الحروب كما يرد عن نساء الخوارج، وذكْر وفود نساء كبيرات في السن يقدمن على معاوية أو يستدعيهن هو، ونسبة خُطب أثناء بعض المعارك بين علي ومعاوية للنساء. وإلى ذلك فقصص العرب القديم حافل بقصص تبدو المرأة فيها وثيقة الصلة بحياة الجماعة، وتشير إلى تمتّع المرأة بالعقل والبراعة في العمل أو البيان.
ويأتي التأويل التاريخي واحداً من أبرز مستندات سعاد المانع في قراءة الموقف الثقافي من المرأة في التراث العربي. وهو تأويل لا ينفصل عن التأويل السياقي الذي يحيل الملفوظات إلى دائرة مقامية خارجية أوسع من الملفوظ نفسه، ولا ينفصل عن ما يطبع صفة المرأة في المقولات بما يقسمها بين نقيضين أحدهما ضد المرأة والآخر معها، وأحدهما متحيز والآخر محايد أو عادل. وأول مظهر للتأويل التاريخي هنا، هو نسبة الملفوظات الواصفة للمرأة إلى زمنها التاريخي، وهي نسبة تستند إلى فرضية تحل مشكل التناقض والتعارض في الموقف من المرأة وملخصها أن التحيز ضد المرأة حادث في التراث العربي وليس قديماً، ووافد على الثقافة العربية وليس أصيلاً فيها.
وبالطبع فإن هناك مقولات مهينة للمرأة لا سبيل إلى تعيين زمنها، وأخرى منسوبة إلى العصور القديمة في تاريخ التراث العربي، أي إلى الجاهلية أو صدر الإسلام. وفي ضوء تلك الفرضية يبدو غير المنسوب إلى زمن بعينه من تلك المقولات متأخراً تاريخياً، كما يبدو ما يُنسَب إلى الجاهلية وحوالي المئة وخمسين عاما الأولى للهجرة من تلك المقولات قابلاً للدحض. ومثال ذلك العبارة التي يوردها الجاحظ في سياق تربية البنات غير منسوبة إلى أحد: «كان يقال لا تعلموا بناتكم الكتابة، ولا ترووهن الشعر، وعلموهن القرآن، ومن القرآن سورة النور». فهذه العبارة –فيما ترى المانع- تشير إلى أن تعليم البنات الكتابة ورواية الشعر كان أمراً متاحاً وإلا لما جاء النهي عنه. وتذهب سعاد المانع إلى مقولات لبعض أعلام القرن الأول الهجري تنتقص المرأة، مثل ما ينسب إلى عقيل بن علَّفة (ت100هـ) رداً على من قال له: لو زوجت بناتك، فقال: «كلا إني أجيعهن فلا يأشرن، وأعريهن فلا يظهرن». وما ينسب إلى عبد الله بن مسعود (ت32هـ) «النساء حبائل الشيطان»... إلخ فتدحضها بقياسها على طبيعة البيئة الاجتماعية آنذاك فهل كان زمن ابن مسعود زمناً انتشر فيه شرب الخمر وإغواء النساء وطيش الشباب ليأتي التحذير من هذه الأشياء؟ وهل كانت بيئة البادية التي يعيش فيها عقيل بن علفة بيئة تشيع فيها العلاقات غير المشروعة؟ فضلاً عن استدلالها بتخصيص عمر بن الخطاب أعطيات للنساء في عصره.
وحتى الحديث عن «وأد البنات» الذي يَنْسِب في القرآن الكريم وفي كتب التفسير والتاريخ ممارسة غاية في الدلالة على حقارة المرأة عند بعض العرب في الجاهلية، تأخذ عند المانع تأويلاً يبرِّئها من الدلالة على تصور المرأة العورة، وتستعين بكتب تفسير القرآن الكريم في ذكر أن الوأد كان يحدث بسبب الفقر وخشية العيلة. أما ما يرد في بعضها من الإشارة إلى خشية العار فإنه يرد فيها على أنه احتمال آخر وليس على أنه أمر مقطوع به، بدليل قبولهم فداء الموؤُودات كما في فخر الفرزدق بصنيع جدِّه. (ويجدر أن نذكر هنا أن الدكتور مرزوق بن تنباك قد أصدر كتاباً بعنوان: الوأد عند العرب بين الحقيقة والوهم (الرياض: مؤسسة الرسالة، 1426هـ- 2006م) يرى فيه أن حصر الوأد في البنات هو تلفيق تاريخي أُلصِق بالعرب على يد بعض المؤرخين، وأن الوأد المذكور في القرآن الكريم إنما كان ينحصر في التخلص من المواليد سفاحاً سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً. ويعقد فصلاً للاستدلال على مكانة المرأة عند العرب بالمعنى الذي تترامى إليه أطروحة المانع تجاه الثقافة العربية القديمة).
- الرياض