قال صاحب (العنز التي طارت)، فأُصيب بـ(أنف العنزة)، كما هو المصطلح في الطبّ العربي القديم، فأخذ يهذي محمومًا:
- ولكن.. يا (للعرب) من غاصبين، مستعمِرين، عنصريّين، إرهابيّين، أحرقوا الأخضر واليابس في هذا العالم، منذ قياصرتهم إلى بوشاتهم! أ لم يحتلّ العربُ أرضَ (إسرائيل) بقوّة الحديد والنار؟! ألم يحتلّ (العراقُ) (الولايات المتّحدة الأمريكيّة)، مثلًا، بحثًا عن أسلحة الدمار الشامل، فقَتَلَ، ودَمَّرَ، وهَجَّرَ، واعتدى على المتاحف والآثار والثقافة الأمريكيّة، التي تعود إلى آلاف السنين، ثم شَنَقَ الرئيس الأمريكي (النَّشْمِيّ) في عُقر داره، ليكون عِبرة لمَن يَعتبر.. وحتى لمَن لا يَعتبر؟! صحيحٌ، قد يُقال: إن معظم الدول العربيَّة هي دول (بَلْطَجَة)، تمثّل سُلطةُ (البلاطجة) فيها إحدى السُّلطات المعتبرة، إلى جانب الشرطة والجيش، كلّها تسهر على خدمة الشعب، وحمايته، وراحته! غير أن الولايات المتحدة الأمريكيّة، قدَّس الله سِرَّها!، لا تختلف عن ذلك، إلّا من ناحيتَين: الأولى أن بلطجتها خارجيّة لا داخليّة، والأخرى أنها بلطجة (قانونيَّة)، ومنظَّمة، وليست غوغائيّة كـ(بلطجاتنا) المحليّة الأصيلة. لكني أقول: إن ما يزعمه المفكّر البارز (نعوم تشومسكي) من أن (الولايات المتّحدة دولة رائدة في الإرهاب، وتستخدم شبكة من الدول الإرهابيّة)(1)، محض افتراء على الولايات المتّحدة الأمريكيّة من ذلك اليهوديّ الخبيث المُخبِث، عليه من الله ما يستحق وما لا يستحق!
ألم يفتك العربُ (بأفغانستان) وأهلها لمحاربة الإرهاب طبعًا (فقط لا غير!) وكلّ ما يمتّ له بصلةٍ من قريبٍ.. أو حتى من بعيد جدًّا! وللبحث عن (أوبامة بن لادن)!)، ولكي يُنتِجوا (كنتاكي) (بقرام)، و(قندهار)، و(قوانتانامو). ولا ننسى بعد ذلك وفي أثنائه طيِّبَ الصيت (متنزَّه أبي غريب)، وغيره من المتنزَّهات والمشاوي في كلّ العالم (الحُرّ!)؟ أ ولا يكفي قوانتانامو وأبو غريب وحدهما فخرًا، بوصفهما شاهدَين معاصرَين لتشخيص الثقافة الراقية التي أنتجتْهما، والحضارة الجميلة التي أنجبت جلّاديهما- وجلّاداتهما للمساواة!- وحسبما حكى عن أطراف من إبداعات هؤلاء العباقرة الصحفيُّ السودانيُّ (سامي الحاج) لقناة الجزيرة ذات حكاية؟ والنماذج البشريَّة المريضة الذين كانوا يمارسون على معتقليهم أحطَّ ما يتخيَّله خيال- سواء في العراق أو في قوانتانامو- ليسوا بإرهابيِّين، طبعًا وقطعًا، حاشاهم، بل هم يمارسون عملهم الرسمي، وحسب القانون والشريعة البيضاء جدًّا في كلِّ شيء!
- لأجل ذلك لم يُحاكَم (جورج دبليو بوش) على جرائمه العالميّة، كما حوكم (صدام حسين) وغيره على جرائمهم الإقليميّة؟! ولماذا لا يُحاكَم بوش على جرائمه العالميّة؟ (سألتُ).
- ومن قال لك إن المجرمين سواء، وأن العدالة في العالم واحدة؟! يا حبيبي، هؤلاء أتباع الشريعة البيضاء، وهم، بلا شكّ عندي، خلاصة التاريخ الغربي المجيد، ونباريس من الحداثة الحديثة، وذروة عُليا للحضارة البشرية المشرقة دائمًا بما يقمع الناسَ ويمكث في الأرض، فانْأَ بعقلك عن الشعارات و(سوالف) العجائز! وتشخيص الثقافة الراقية التي أنتجت جلّادي قوانتانامو وأبي غريب، والحضارة الجميلة التي أنجبت أولئك الأشاوس، ليست بأغرب من الثقافة الراقية التي أنتجت جلّادي الطبيعة أيضًا، والحضارة الجميلة التي أنجبت العابثين بكلّ شيءٍ بلا شفقةٍ ولا رحمةٍ، من أجل الربح المادّيّ، وملء بطونٍ لا تشبع، وربما رفاه الإنسان الأبيض.
- ما شاء الله! أ أنت جادٌّ أم ساخر؟... الشواهد بلا حصر، أزيدك من أدلّها ما كُشِف حول (مطاعم كنتاكي)- ما دمتَ معجبًا إلى هذا الحد بمطاعمهم- من فضائح تتعلّق بتلك الثقافة الكنتاكيّة؛ وما يمرّ به الدجاج فيها، قبل إعداده الشهيّ، الذي يسيل له لُعاب العالم، من التعذيب، وتقطيع مناقير الدجاج وهي حيَّة، والصعق بالكهرباء، وغمرها في مياه حارّة، وهي حيّة، ونقلها بطُرق وحشيّة، وكأنها أشياء، مجرد أشياء، لا مخلوقات حيّة، وتكسيرها وتهشيمها بالرمي في الجُدران حيّة، ثم وَطْئها بالأقدام- تمامًا كما تفعل الثقافة (العم ساميّة الكنتاكيّة) بدجاج البَشَر! وهو ما أقام ضِدّ (كنتاكي) حملة منظَّمة في الولايات المتحدة لمقاطعتها، وتدشين موقع على (الإنترنت) لفضح هذه الشركة المجرمة، بالصور المباشرة عن أعمالها، وللدعوة لمقاطعتها، بما أنها لا تحترم بممارساتها الشاذّة تلك لا الحيوان ولا الإنسان. نعم، إنها ثقافة لا قيمة لشيءٍ فيها إلّا للدولار.
- لا تُعمِّمم هنا، فإن الخيِّرين هناك كثير، وإلّا لما فُضِحت تلك الممارسات، سواء تعلَّقت بالإنسان أو بالحيوان، بل لما عَلِم عنها أحد قط، كـ(عاداتنا السريّة) في العالم الثالث.
- معك حقّ، طال عمرك، لكن ّ مدى الوحشيّة التي تنفضح بين وقتٍ وآخر تُنبئ عن ثقافةٍ غالبةٍ طاغيةٍ، يُمعِن بعضُ المغفَّلين، أو المهوّسين، في تمجيدها، وتصوير مثاليّاتها، ويأبى الله إلّا أن يكشف الزيف! أين ثقافة (الكنتاكي)، إذن- التي لا تنفكّ عن تذكيرنا بحقوق الإنسان، وتتغنَّى بالرفق بالحيوان- من ثقافة كانت تحثّ على الرِّفق بالحيوان، لا بالإنسان فقط، وتجعل ذلك سببًا لدخول الجَنَّة، وضِدّه سببًا لدخول النار، وتدعو، حتى لدى الذبح، إلى إراحة الذبيحة، وإحداد السكّين، وألا ترى الشاةُ أختها تُذبح، كما هو معروف في سُنن الذبح للبهائم! ولئن لم نطبِّق- نحن العرب والمسلمين- هذا دائمًا، ولا نزكّي مجتمعاتنا عمّا فيها من اختلالات وشذوذات وعنف وإرهاب، إلّا أنها قطعًا ما زالت دون تلك الفظاظة المرضيَّة الماديَّة لدى القوم، التي لا تحدّها حدود، ولا تدلّ في الجملة على أن ثقافةً اجتماعيّة أنتجتها وتربية إنسانيّة أنبتتها فيها من الخيريّة بتلك الصورة الورديّة المروَّجة عنها. وكيف، وهي ثقافة راجت فيه مقولات: موت الإنسان، وموت الروح، وموت الله، تعالى الله عمّا يأفكون؟!
- مع هذا، فالروح باقية فيهم، والإنسان باقٍ، والخير باقٍ، رُغم أنف المادّة، وأنف النزوعات الأنانيّة الطاحنة.. ورغم أنفك أيضًا!
- دَعْكَ من أنفي، واهتمّ بـ(أنف العنزة)- أو كما تسمِّيه أنت: (إنفلونزا).. أعني (إنفلونزا الطيور الثقافيّة) التي تعشعش في رأسك! ألا ترى أن من أبرز نماذج العنف في تلك الثقافة تحوُّل الجريمة إلى (فنّ)، أو ما يُعَدّ فنًّا، مشروعًا، وذلك عبر الأعمال السينمائيّة، الأمريكيّة منها بصفة خاصّة. تلك الأفلام التي لم تَعُد تقوم على علاقة، لا بالواقع ولا بالخيال الإنسانيّ السَّويّ، وإنما علاقتها بثنائيّة معيارَين: (الدم، والمال)؛ حتى إن القُبح والرُّعب لم يعودا مقصورَين على قطاعٍ محدَّدٍ من تلك الأفلام الأمريكيّة، كان يسمَّى (أفلام الرُّعب)، بل أصبح القُبح والرُّعب والترويع قواسم مشتركة بين أنجح الأفلام، بما تحمله من أقصى ما لا يمكن أن يتخيَّله الشيطانُ من أساليب الشرّ والإجرام.. وحتى باتت تلك الأعمال وباءً نفسيًّا واجتماعيًّا عالميًّا. ثم يتساءل أرباب تلك الثقافة عن سِرّ ازدياد العنف والجريمة والإرهاب في العالم؟! لقد باتت السينما الأمريكيّة مدرسةً عالميّةً لتلقين العنف والإجرام، وتطبيع البَشَر عليهما، وتحبيب المشاهدين فيهما، بوصفهما فنًّا وبطولة وعبقريَّة! وما يدمن إنسان مشاهدة تلك الأفلام فلا تترك فيه أثرًا سيِّئًا وعاهةً نفسيّةً وذهنيّةً مستديمةً، أقلّ أعراضها تبلّد الإحساس الفِطري بالاشمئزاز من بشاعة الإجرام. إن كثيرًا من صناعة السينما اليوم في العالم هو مدارس عالميّة في الإرهاب والجريمة والرذيلة! وهم يكذبون حين يقولون: (ذلك هو الواقع)، حتى لو سُلِّم جدلًا أن وظيفة الفنّ نسخ الواقع كما هو، فليس ذلك هو الواقع حتى في أمريكا، بل ذلك هو واقع ما يسكن خيال حثالةٍ من المرضى النفسيِّين والسكارى بشهوة المال والأضواء، فوق سُكر الأشربة الكحوليّة. ولا يبعد أن تكون وراء بعض تلك الأعمال أهداف تدميريّة للمجتمعات من قِبَل أيادٍ لا تفتأ تصدِّر سياساتها عبر كلّ سبيلٍ بما في ذلك الفنّ. ذلك أنك مهما كنتَ مأفون العقل بارد الضمير، فلن تجد وراء ذلك الضرب من الأعمال أيّ رسائل، لا فنّيّة، ولا أدبيّة، ولا ثقافيّة، إلّا لو سلَّمنا بأن نحر الإنسان أخاه الإنسان يمكن أن يمثّل مشهدًا إبداعيًّا خياليًّا نبيلًا رائعًا، يصوَّر فيلمًا، ليحظى بجائزة الأوسكار! ولن يقف (أرسطو) هاهنا ليذرف كلمة احتجاج واحدة على (أفلاطون) تبريرًا لمثل هذا النوع من الفنّ الذي لم تُخلق بعد لغةٌ تعبّر عن مدى انحطاطه، طبيعةً وقيمةً وويفة.
- ولكن.. يا (للعرب) من ثرثارين، بنتقدون ولا يبنون النصوص!
- قلت: أمّا هذه، أنا أشهد! لكن يبدو أنك مختلَط، ولم تعد عنزك وحدها هي التي طارت!
** ** **
(1) انظر: الحوار المثير الذي أجرته معه (منيرة بنت عبدالله)، جريدة (الجزيرة)، عدد الأحد 1 ذي الحجة 1431هـ= 7 نوفمبر 2010م، ص34.
- الرياض p.alfaify@gmail.com ***** http://khayma.com/faify