يستهل الروائي ماجد سليمان روايته الجديدة «دم يترقرق بين العمائم واللحى» في رسم تفاصيل الحياة الدقيقة بمختلف مكوناتها، لتكون الرؤية المبدئية للسرد نافذة إلى عمق حقيقة ما يرمي إليه الراوي المحمل بالكثير من الصور المعبرة، والمشاهد الموغلة في عتقها، وتداعيها على مسارب حياة صاخبة يعيشها هؤلاء الشخوص الذين اشبعوا الحكاية سردا حاذقا وتفصيلا متقنا.. حتى بات هذا النص الروائي مزيجا من صور الحياة الضاجة بالمتناقضات، والرؤى المكتنزة بمفاتن المفاجآت والعبر.
فلا أجمل من مدخل يذيع فيه الراوي مشهد الشخصية الأولى في الرواية حينما يطل على عالم نسائي يَتَحلَّقُ حول فتاة باذخة وآسرة الجمال، بل مفتونة بالرقص والحياة، حتى يأتي على آخر هذا الحفل وهو يستطرف حكاية اختلاس النظر ممعنا في تفاصيل الوجود حول «فتاة ذات جرس خلخالي فاتن في هذا الليل المبهم والمدهش والمليء بالمفاجآت العجيبة والتناقضات الغريبة» التي يحجب أكثرها سواد الليل وزاوية رؤية حاذقة يرقب منها بطل المشهد تحولات كثيرة.
ينتهج الروائي ماجد سليمان في هذه الرواية أسلوب عرض المشاهد والمواقف للشخصيات وإن تباعدت حكاياتهم عن بعض، فهو المعني على الدوام بإثراء الشخصية ومكونها، وجعلها مفعمة في ذهن القارئ ومتداخلة في مضامين الحكاية بمختلف تفاصيلها وعناصرها الزمانية والمكانية التي تستند إلى رؤية واضحة تجعل من الصورة واقعا حميميا لا يمكن تجاهله أو الابتعاد عن تفاصيله.
فالرواية هنا تنشد الثبات على أرض صلدة وفكرة صلبة تتمثل في تفاصيل المكان وتحوله مع الأحداث أيا كان شكلها، أو حضورها، أو وقتها، فيما يصبح الزمان شهادة موسومة بالتفاصيل الدقيقة لحكاية هذه البيئة القبلية والريفية الممتاحة من عمق تراث إنساني يسترشد بمضامين حياة الجماعة وناموس الأسلاف ورؤى السابقين الذي تقض تجاربهم ومواقفهم الصارمة جنبات الحكاية العصرية.. تلك التي لا تتحمل الكثير من هذه القسوة، إلا أن الروائي بكل دربة وتفنن يدفع بشخوصه نحو مسرح الحكاية، ليرسم لنا وبأسلوب بارع تفاصيل حياة تشبه ربقة الأحلام وشميم رائحة الوجد وتفاصيل «رقصة السيف والنار» التي يجد فيها الراوي ضالته ومبتغاه، لتكون الحكاية آسرة بحق، وممتعة في أدق تفاصيلها.
وما يؤكد قوة النص وفعاليته هو أن الراوي ـ رغم علمه وقدرته ـ فإنه لا يتدخل في الكثير من التفاصيل في النص ولا ينتقد بحدة ولا يقدم أي رأي يمكن أن يحمل على أي شخصنة محتملة، لتتهادى تفاصيل الرواية على هذا الروي الحافل بالحكاية الأصلية والفكرة المتوازنة والسرد المترابط للمشاهد التي تكون هذا العمل.
رواية «دم يترقرق بين العمائم واللحى» تنهل من معين لغة سردية متوازنة لا تغرق بأي وصفيات أو تند بمشاهد مترهلة عن مفهوم السرد إنما تبقى متوازنة في طرحها ومتكاملة في بنائها ومعمارها الفني.. فلم تكن اللغة متقعرة أو صعبة إنما جاءت سهلة القياد وتتماشى مع السرد وحكاية الإنسان الذي يعيش تفاصيل الحياة بكل مكوناتها ولاسيما ما استدعاه «الروائي الماجد» من ذهنه وبناه في مخيال فني يستند بلا شك على معمار حكاية أصلية موغلة في عتقها ودهشتها.
ورغم أنه عني في تفاصيل حكاية الإنسان في حقب سالفة إلا أنه حافظ على وتيرة السرد، لينقلنا من مشهد واقعي إلى آخر خيالي، فتمتزج في هذا السياق المشاهد بلغة متوازنة، تحقق منجز العمل السردي الذي لا يطغى فيه أي عنصر على الآخر.. حتى وإن تتبعت تفاصيل حياة الكاهنة «خندريس» داخل كهفها المفعم بالكثير من المحتويات الغريبة إلا أن هذه التفاصيل تظل في علاقة وئام بينها وبين حياة البشر هنا على نحو لجوء الراوي إلى عالم «خندريس» ليتلمس أي حلول ما لحياته التعسة في هذا الزمن الذي يمكن لنا أن نسقطه على عالمنا اليوم.
عُني الروائي ماجد سليمان حقيقة بتفاصيل حكاية ـ كمسبحة ـ ظل ينظم خرزاتها واحدة تلو الأخرى، فمع هذا الانتظام تجسدت المشاهد أو الفصول بالرواية على هيئة لوحات متقنة ومتميزة في أسلوبها، وتفنن أبطالها وشخوصها في أذكاء نار المفاجأة، فجاءت هذه اللوحات أو المشاهد برابط حدثي واحد سعى الكاتب من خلاله إلى كسر نمط السرد المسترسل مما جعل العمل قريبا من الذائقة وممتعا في تناوله.
*** ***
إشارة:
- دم يترقرق (رواية)
- ماجد سليمان
- مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت ـ 2013م
- تقع الرواية في نحو (192صفحة) من القطع المتوسط