ليس كل ريادة بالضرورة يُصاحبها ضجيج، فهناك الريادة الناعمة..هذا ما يمكن أن نصف به ريادة الأستاذة صفية بن زقر.. ريادة ثقافية ناعمة تخلو من الضجيج وتمتلئ بالإنجاز..فليس كل ضجيج حاملا لإنجاز.
صفية بن زقر.. الريادة القادمة من عالم اللون والصورة، إلى عالم الفكر والكلمة.. فإذا كان الإبداع طبيعة الثقافة و الفكر عقلها.. فاللون و الصورة روحها.
هذه المعادلة الناعمة التي استطاعت الأستاذة صفية بن زقر أن تؤسس ريادتها من خلال «دارتها» «الفنية الثقافية» التي يمتد عمرها أكثر من سبع عشرة سنة، ومن قبل من خلال همها الاجتماعي الذي أرخت له عبر اللون و الصورة.
إن المسألة الأهم المرتبطة بتوصيف الريادة هي «شروط الريادة».
الشروط التي تُحّول الإنجاز إلى ريادة.
فالأستاذة صفية بن زقر أول فنانة سعودية تتلقى تعليماً أكاديمياً في فن الرسم، وأول سعودية تقيم معرضاً لأعمالها الفنية.
صحيح أن «الأسبقية» ليست بالضرورة صانعة «ريادة»،فكم من «أسبقية» احتالت على «الريادة» دون أن تقدم قيمة، وكم من «أسبقية» احتالت على «الإنجاز» دون أن تقدم «قيمة»،لكن «التاريخ» فاحص للاحتيال وكاشف للمزيف من الحقيقي.
إن ريادة الأستاذة صفية بن زقر لا ترتبط لكونها أول سعودية تتلقى تعليما أكاديميا وأول سعودية تقيم معرضاً لأعمالها الفنية فقط، صحيح أن إيمان المرأة بنفسها والتعبير عنها بصوت مسموع في مجتمع مثل المجتمع السعودي وفي زمن له تعقيداته الاجتماعية مثل الزمن الذي بدأت فيه الأستاذة صفية بن زقر هو ريادة في ذاته. فإحدى خصائص الريادة «طبيعة المكان و الزمان المتحكمان في العقل الاجتماعي».
وكلما كان قرار المرء أو فعله أو أفكاره تحدياً «لخاصية الزمان والمكان» اقترب من «الريادة»،أقول اقترب من الريادة و الاقتراب ليس بالضرورة يقتضي تأسيس «للريادة»؛ لأن هناك أمورا أخرى بمعية «صفة التحدي» تؤسس «الريادة». فالقرار الذي يحسب ريادة في زمن قد لايُحسب كذلك في زمن آخر، ولذلك لا نغفل عن أهمية الزمن ونحن نتحدث عن صفة الريادة و فاعليتها.
كما أن مصطلح «التحدي» قد يعتريه بعض اللبس،لأنه قد يصبح جامعا لدلالة التمرد أو التجاوز أو الهدم، وبذلك يفقد دلالته الإصلاحية أو التوعوية أو التطويرية، والضابط ها هنا يجب أن يوثق بمعيار شرعي، لا عرفي.
إن التحدي الذي خاضت به الأستاذة صفية بن زقر والذي أرخى ريادتها، هو تحدي الزمن قبل تحدي العقل الاجتماعي.
إن علاقة المرأة بالزمن تختلف عن علاقة الرجل بالزمن، قد يعتقد البعض أن المرأة «تخاف من الزمن» وأنه الأصل في طبيعة المرأة، وهذا غير صحيح؛ فالخوف من الزمن خاصية مكتسبة أجبرت المرأة على تحسبها ضمن أصل طبيعتها.
إن فكرة «الصلاحية القابلة للانتهاء» المرتبطة بشكل المرأة وجسدها التي يطبقها الرجل على المرأة هي فكرة قائمة على تحويل المرأة إلى «سلعة» لها عمر افتراضي بعده تصبح «منتهية الصلاحية».
لقد استطاعت الأستاذة صفية بن زقر من خلال رسالتها التشكيلية المعتمدة على «التراث الحجازي» للمرأة وعلاقاتها الاجتماعية،أن تتحدى فكرة «الزمن الافتراضي»، وتثبت من خلال ذلك التحدي أن علاقة المرأة بالزمن علاقة توافق وتصالح لا صراع.
وإن الزمن ها هنا فيه إثبات لقيمتها التنويرية وهو ما يكشف زيّف الظلامية التي روّجها التاريخ الذي كتبه الرجل.
إضافة إلى أن التركيز على الزمن من خلال المرأة كما فعلت صفية بن زقر من خلال فنها التشكيلي فيه اكتشاف لقيمة المرأة ومسئوليتها الاجتماعية وفي ذلك تأصيل لقيمة المرأة وإن الفاعلية هي الأصل في حركة المرأة لا الحجز والتسكين والتأكيد على هذا الأصل فيه مكافحة لفكرة التمييز والاعتقاد الشائع «بحرملك المرأة»، وخاصة أن المرأة هاهنا التي تُحيّها صفية بن زقر هي المرأة الحجازية.
إنها تعبر عن امرأة لها خصوصية؛ فما لايعرفه الكثير عن المرأة الحجازية أنها هي التي أسست القاعدة التنويرية للمرأة في السعودية بدءاً من التعليم ووصولاً إلى المناصب الرسمية.
أقول: إن ريادة الأستاذة صفية بن زقر لا ترتبط لكونها أول سعودية تتلقى تعليماً أكاديمياً وأول سعودية تقيم معرضاً لأعمالها الفنية فقط، وإن كان الإعلان في زمن الممنوع يُحسب ضمن فاعلية الريادة، ولا لكونها ملكت تحديا تتهرب منه مثيلاتها فقط؛ بل هي مرتبطة إضافة إلى تلك الدلالات المتعلقة بالأسبقية بمشروعها «الفني الثقافي» الذي بلورته من خلال «دارتها» دارة صفية بن زقر. وهذه هي روح الريادة وحقيقتها، أن تملك مشروعا تُحقق من خلاله ما تؤمن به.
فالريادة لا تُصنع من خلال إيماننا المعنوي بأفكارنا رغم ما يمثله الإيمان المعنوي من دافعية.
فلابد من «مشروع» يمثل ذلك الإيمان المعنوي، وهو ما يضمن «حقيقة الريادة».
ما يميّز الأستاذة صفية بن زقر عن بنات جيلها اللائي حظين بالتعليم خارج السعودية والثقافة الأجنبية هو إيمانها بدورها ومسئوليتها المجتمع.
وهذا الدور والمسؤولية تبلورا من خلال رسالتها الفنية التي تمثلها رسوماتها ومن خلال «دارتها الفنية الثقافية».
إن الفن التشكيلي رسالة قبل أن يكون ضمن الترفيهات هذا ما استطاعت الأستاذة صفية بن زقر أن تؤكده من خلال رسوماتها، التي تتجاوز قيمة «التوثيق التاريخي للبيئة الحجازية» عبر الألوان والصور، تجاوزته لتصنع لفنها رسالة تاريخية وإصلاحية، وهي بذلك حررت الفن التشكيلي من الاعتقاد الذهني الجمعي أنه «فن نخبوي» يغلبه الإفراط في المتعة والجسدية أو الغموض والمُبهمات إلى «فن شعبي» فهمه في متناول الجميع.
إن أي فن نخبوي لايمكن أن يتخلص من نخبويته ليختلط بالشعبية إلا إذا عبر عن حياة الناس عن ذاكرتهم عن تراثهم وتاريخهم، وأظن أن هذه هي القيمة الحقيقية للثقافة.
لقد استطاعت الأستاذة صفية بن زقر عبر فنها التشكيلي أن تعبر عن البيئة والمرأة الحجازية عن بيئتها عن طقوسها الاجتماعية، والتفاصيل الحياتية الدقيقة في الحجاز، ومظاهر العادات والتقاليد الشعبية. وهو ما أعطى رسالتها الفنية قيمة في رصد الواقع الاجتماعي في المملكة وكل ما يتعلق بالمرأة ووظائفها الاجتماعية.
إن الاحتفال بعبق التراث ليس دائماً عودة للخلف بل أحياناً هو تثبيت لأصالة الهوية وإحياء لقيم ضاعت مع ضجيج العصرنة، إن الفن والأدب بوجه عام هما ذاكرة الشعوب، وكلما اقتربت رسالة الفن والأدب من حياة الناس وتاريخهم وهويتها اكتسبا الريادة والخلود.
لم يقف إيمان صفية بن زقر بالمجتمع عند حدود الألوان والصورة بل أمتدّ إلى المساهمة الاجتماعية في نشر قيمة الفن والثقافة من خلال «دارتها» وهذه قصة أخرى تتجلى فيها عظمة هذه السيدة الرائدة. إن الأنانية والنفعية هما من مُفسِدات الريادة.
لقد أنشأت الأستاذة صفية بن زقر»دارتها» لغاية خدمة المجتمع الجداوي ثقافياً وفنياً وتوعوياً، لا تهدف إلى ربحية من أي نوع، ولا تهدف إلى دس السم في العسل.
فكانت دارتها لكل الأطياف النخبوية والشعبية، ولم تكتفِ بذلك بل شملت الجيل الجديد ففتحت أبواب «دارتها» لطالبات المدارس بمراحلها المختلفة، ورعاية المواهب، وبذلك حققت معادلة الاندماج مع الأجيال، المعادلة التي فشل في تحقيقها النادي الأدبي في جدة. فأصبحت دارتها بمثابة «مؤسسة ثقافية».
إن تكريم الأستاذة صفية بن زقر على المستوى الخليجي يحمل العديد من الدلالات منها؛ أن رسالة التنوير الاجتماعي ليست قاصرة على الدين والأدب بل والفن التشكيلي وأن معيار القيمة هاهنا للرسالة والحاصل لا لطريقة التعبير. إن تكريم الأستاذة صفية بن زقر لا يأتي في إطار أسبقيتها في مجال الفن التشكيلي بل يأتي أيضاً في تقدير دورها نحو المجتمع وما تقدم له من خدمة ثقافية مجاناً لتطوير وعيه من خلال»دارتها».
يأتي أيضاً تكريماً للدور التنويري للمرأة الحجازية التي تُعتبر الأستاذة صفية بن زقر «أيقونة»ممثلة له.
فتحية إجلال للأستاذة صفية بن زقر ولكل امرأة سعودية تؤمن بأن فكرها وصوتها يجب أن يكونا تنويريين.
- جدة sehama71@gmail.com