في قرية سان مارتن دير التي تجاور المدينة التي أقيم فيها، نادٍ متخصص بالشعر (بيت الشعر في الألب) يباشر منذ ثمانية عشر عاماً إقامة مهرجان شعري يأتي إليه الشعراء من كافة أنحاء العالم. عادة ما تقوم إدارة النادي المؤلفة من العاملين به وهم خمس سيدات ومستشار واحد باختيار الموضوع أو التيمة التي يتمحور حولها المهرجان السنوي. وبعد هذا تتم دعوة الشعراء ممن كتبوا حولها. هذا النادي الذي ترأسه سيدة هي بريجيت دايان، لا يملك إمكانات مادية ضخمة، ولا يملك حتى مبنى ليقيم فيه احتفاليته السنوية. هو عبارة عن شقة صغيرة مستأجرة يتم تحصيل أجرتها من وزارة الثقافة الفرنسية شهرياً، ويؤمن السكن لضيوفه في بيوت أعضائه ولا يقدم لهم (ن) أي مصاريف إضافية باستثناء تذكرة القطار أو الطائرة التي بالكاد يمكن تأمينها بمساعدة البلدية وعائدات المطبوعات التي ينتجها النادي ويبيعها. سواء أثناء الاحتفالية السنوية أم من خلال عرضها في المكتبات. ولا يتدخل بأي نمط ثقافي آخر، سوى ما يتم تنظيمه من معارض فنية (فنون تشكيلية، تصوير فوتوغرافي، تجهيز، نحت) تترافق عادة مع نشاطه السنوي.
أتابع عمل هذا النادي منذ سنوات، وكنت ضيفة لعدة مرات، سواء للحديث عن الثقافة في شرق المتوسط أو لموضوعات أخرى أو لتقديم شعراء عرب كانوا ضيوفه مثل سركون بولس، أدونيس، مرام المصري، أحمد عبد المعطي حجازي وإلى آخر السبحة من أسماء. أما عمله المتمحور حول الشعر، فهو اختيارٌ ذاتي من الذين أسسوه في البداية. وهو يقدم نشاطات لا تتعارض مع الأندية (الثقافية) التي تحيط به. سواء في القرية نفسها، أو في المدينة القريبة، أو حتى في المحافظة. بل يسعى من خلال تخصصه لاستقطاب أكبر حشد ممكن من الجماهير حول الشعر.
محور الحديث هنا حول تخصص الأندية، الأمر الذي غالباً يتضح من خلال اسمها وعنوانها الأساسي. فكلما كان عنوان النادي محصوراً بفرع من فروع الثقافة، كلما كان عمله مركزاً وواضحاً وناجحاً. أضع النجاح، هنا، على اعتبار أن النادي الذي يتخصص بفرع معين لا بد وأن من يعمل به وعلى مشاريعه أشخاص متخصصون في هذا الفرع. عالمون بتفاصيله وخباياه، متمرسون في العمل الإداري والتنظيمي الذي تتوخاه مثل هذه الأندية. أما مناسبة الحديث فهو تحقيق نشرته جريدة الحياة (الطبعة السعودية) في 30-3-2013 في صفحتها الثقافية تحت عنوان مستفز «مثقفون: أدبي جدة يبحث عن الجماهيرية وتحول إلى مركز تدريب فاشل» محوره، أن النادي الأدبي الثقافي بجدة قام بتنظيم دورة للفنون التشكيلية الأمر الذي يتعارض مع عمل جمعية الثقافة. وقد أنصفت الدكتورة لمياء باعشن التي استنطقت في هذا التحقيق، عمل النادي باعتباره يشمل مختلف فروع الثقافة. وبما أني أؤيد ما ذهبت إليه زميلتي في هذا الملحق. سأذهب إلى ما شكل استفزازاً لي في عنوان التحقيق دون الدفاع عن النادي في جدة الذي أعتقد أنه لا يحتاج إلى من يدافع عنه قدر ما يحتاج إلى من ينصف عمله. وبما أني بعيد وأتابع النشاطات عبر الإنترنت فلا يحق لي التدخل في هذا الأمر الذي يحتاج إلى متابعة عينية ووجود ومداومة ومراقبة مستمرة وتقييم ومن بعدها الخروج برأي يستند إلى كل هذا.
المثقفون الذين عناهم التحقيق قالوا إن (أدبي جدة: يبحث عن الجماهيرية) وهذه بالحقيقة تهمة ترفع من أرصدة النادي وتقيم وزناً لعمله ومساعيه. فمحاولة البحث عن الجماهيرية، أو استقطاب الجماهير من أي فئة كانوا ولأي طبقة انتموا - القصد هنا طبقات المجتمع العامل الذي تبدأ من عمال النظافة وحتى أساتذة الجامعات - وهؤلاء جميعاً معنيون بالثقافة وعلى أي نادٍ تتوفر فيه إدارة حقيقية، تعرف قيمة عملها أن تتوجه لهم جميعاً، لا أن تقصر نشاطاتها على النخبة التي هي عادة من أهل البيت. وهي نخبة إذا ما تحولت إلى جمهور وحيد للثقافة أفسدتها وجوفت معانيها وعصرتها عصراً من كل محتوياتها. المريب في هذا العنوان، اعتباره أن الجماهيرية ضد الثقافة، ما يعني أن النادي في استهدافه للجماهيرية لم يعد يقدم مادة ثقافية تليق بالثقافة. وكأن الثقافة النقية والجدية تتورع عن استقطاب الجمهور وتسدُ الممرات في وجه الجماهير الزاحفة إليها. في وقت أن الشكوى في كل العالم العربي مصدرها قلة إقبال الجماهير على الأندية الثقافية بسبب جمودها وتصلبها وعدم تقديمها للحديث والممتع والمفيد. فالأندية الثقافية إن لم تقدم سوى محاضرات عن منهجية التفكيك في الفلسفة المعاصرة وعناوين أخرى على هذا الوزن، لن تستقطب حتى من هم يعتبرون أنفسهم من بين النخبة. إذ إن هذه المواضيع، التي تحتاج لتخصص ومتخصصين تستقطب فئات قليلة مهتمة، ذلك أن هذه العناوين لا تعبر عن الاهتمامات الجماعية. فإن كان الهدف من الأندية والصروح الثقافية استقطاب الجماهير من أجل رفع المستوى الثقافي للمجتمع بشكل عام والتحفيز على الاهتمام بكل فروع الثقافة ومنجزاتها. لا يمكن حين تبدأ الأندية بالبحث عن الجماهيرية اتهامها بتدني المستوى وبهدلة الثقافة وتحول مصطلح (الجماهير) إلى إساءة للثقافة في حين أنه النقيض من هذا تماماً.
بالعودة إلى فرنسا، فإن ميزانية وزارة الثقافة للعام الحالي بلغت 7،5 مليار يورو خصص حوالي 63 بالمائة منها لقطاع التلفزيون وتقديم الخدمات الدعائية للثقافة من أجل تحقيق الجماهيرية التي إن تحققت وازدادت أعدادها تكون الوزارة قد ضيعت هذه الأموال في الهدف الذي رسمته للثقافة. وهو تحويلها من سلعة للنخب إلى مطلب جماهري عام.
simnassar@gmail.com
باريس