العقل نعمة كبيرة، لا يدرك ذلك إلا من عاشها وعايشها على حالات مختلفة في الحياة، ما بين: حلو/ ومر/ وأمن/ وخوف/ وصدق/ وكذب/ وقوة/ وضعف/ وإخلاص/ ورياء..
فالعاقل الحصيف - جدّ حصيف - لا يصلح أمره أبداً ولا تصلح حاله أبداً ولا تتفق حياته براحة صادقة واعية مُطمئنة إلا إذا صدق مع نفسه فيما يأتي ويذر.
ولهذا تجد العاقل يدع كثير الجدل، ويدع كثير الملاسنة، ويترك من يخال حمقه وسفهه، وقد يجر عليه هذا العداوة، لكنه لا ينظر إلى ذلك أبداً؛ فيمل عدوه منه، ويتركه، وينساه، ثم يُفاجأ العدو بأن العاقل قد ظهر عليه بعد حين بصورة وفي صورة لم يكن قط قد توقعها.
وفي أخبار من سلف خلال العهود لم يخلد أثر صحيح سليم سالم من المعارضة، ولم يخلد رأيٌ كذلك إلاَّ ووراءه عاقل بصورة من الصور.
لكن لا يحسن الخلط: بين العقل/ وقوة الشخصية المركزية، أو بين العقل والمحاباة أو المجاراة، أو بين العقل وفرض الرأي بقوة ليصبح الأخير سائداً.
أو يتم الخلط بين: العقل/ والسطو بلباقة ومهارة أو استغلال الغير بذكاء ودهاء.
ففي (تراجم علماء كبار)، جدّ كبار، مثل: تراجم علماء اللغة.. أو النحاة.. أو تراجم علماء الحديث أو علماء الأصول.. أو الفقه.. أو القضاة.. تلمس هناك العقل كيف يبرز..؟
وكيف برز..؟
ففي كثير من كتب (التراجم) تلمس حقائق مُهمة تبرز لك شيئاً فشيئاً عند معاودة القراءة مرتين أو ثلاث مرات، لعلك عند ذلك أحياناً تنظر هذا الحين بمنظور آخر، وتتأسف كيف حال العلم/ واللغة/ والنحو/ والفقه/ والإدارة.. إلخ.
كيف الحال عليه اليوم مقارنة بما بين يديك من آثار وسير/ وحالات/ وأمور السالفين.
لا جرم قد تُصاب بتخدير الأعضاء دون وعي، إنما هو تخدير لا شعوري، جاءك بصدمة غير متوقعة.
فمن خلال مشاركتي العلمية الرسمية وكذا المستقلة في كثير من اللجان.. والهيئات.. ولقاءاتي بكثير ممن عليهم العلم وسداد الرأي، وجدتُ الغالب هناك ينشد الخير والسعي إليه والبذل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لكن يأخذك العجب كل العجب أنه لا ينتج من خلال (غالب) الجهود إلا التكرار حتى لتظن أن هناك مجرد محاكاة بين كل هيئة وهيئة ومركز ومركز ومجلس وآخر، لكن هذه المحاكاة تتخذ طرقاً قدداً مع اتفاق المعنى دون كلام. ولعل «النوادي الأدبية» من أمثلة كثيرة تجدها بين شد وجذب وقيام وقعود واتفاق واختلاف.. وصيد هذا كله فيها أنها لا جديد مفيد بل حتى المحاضرات والندوات تُشعرك بالإنشاء والخطاب السردي مع ضعف شديد في توثيق الآثار والخلط بين (النقد.. ودراسة الأعمال الأدبية)؛ ولهذا لا تجد من بين «المحاضرين فيها» أحداً من كبار العلماء الرسميين أو من المستغلين وكذا غيرهم من الأدباء.
وتستطيع أن تجمع لديك (خمس نسخ مطبوعة) مما طبعها كلُّ نادٍ، ثم ها أنت تُقارن بينها فماذا أنت واجد هناك..؟
فكيف حصل هذا..؟!!
ولماذا يكون..؟
ولماذا يتم تكرار المطروح..؟
ثم أين توثيق الآثار فيها..؟
ومن أين جاءت العجلة خلال الطرح..؟
ولماذا أسمع.. ويسمع غيري هذا اللغط في النوادي بين نقد.. وتجريح وتهوين..؟
ما سبب هذا كله..؟
كان العالم اللغوي، وكان العالم النحوي، وكذا كان العالم المحدث والفقيه.. كانوا يأتون بجديد الآثار بكلام علمي رصين نسبة.. وذِكراً.. وتحريراً لمراد الرواية والدراسة، كل ذلك يكون بعيداً عن الإنشاء والسرد والمعاودة والتكرار.
وفي «المعاجم اللغوية» يتبيّن فيها بيان كل مفردة ودلالة مرادها على المعنى، ولا تجد العودة إليها فيما يُحقق أو يُؤلف؛ ولهذا اختلطت العربية بالعامية، كما اختلطت المفردات بين لهجة ولهجة ولسان ولسان.
حقيقة، قد أكون أعلم بعض أسباب هذا، لكن الذي لعله قد يصعب هو الإجابة عن هذا السؤال:
لماذا يتكرر هذا..؟
لماذا يتكرر..؟
ولستُ أشك في إخلاص القائمين على الهيئات العلمية والمجالس الفقهية والديوانيات الخاصة الجيدة، ولا عليَّ أن أشك بجهد القائمين على النوادي الأدبية، لكن كيف حصل هذا كله..؟
إن الآليات الحسية والآليات المعنوية، وإن قوة الاطلاع وشدة صفاء الذهن والتأني والشعور بالمسؤولية سببٌ لنقلة نوعية ممتازة.
وإن ضرورة المادة المادية وتقديم تسهيلات كبيرة وتحفيز العلماء.. والأدباء.. والمثقفين والمحققين، تحفيزهم للعطاء الممتاز والبذل لصالح التاريخ، وإن اختيار المادة الجديدة والمادة الثقيلة حقيق بها البقاء أبداً.. وإن نشدان العلماء الكبار والمحققين جلب الإضافات كل ذلك - {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} - يُساهم في ضرورة إعمال العقل لا القلب فيما من شأنه بلوغ الهدف الأسمى من الهيئات العلمية.. والمجالس الفقهية.. والمراكز العلمية.. والنوادي الأدبية، وكذا قطعاً لن أترك «دور النشر».
وتحرص الدولة - كل دولة - على بروز العقل المجدد وبروز العقل المساهم في السياسة، في المجالات كلها، سياسة العلم والأدب والثقافة والإدارة والهندسة والطب والاقتصاد.. تحرص كل الحرص على أن يكون ذلك كله واجهة خالدة، تساهم في صناعة الموهبة باكتشافها وتوظيفها والمحافظة عليها.
ولعلمي بحال «سمو ولي العهد الأمير سلمان» وقوة متابعته للعلم وأهله وللأدب وأهله وكثرة متابعته لحاجة العلماء الباذلين وحبه الشديد لكل عمل عاقل متقن جديد كتبت هذا، وسموه أهل لتكون أياديه خالدة عليّ بما كتبته له.. وبما أكتبه.
فحياه اللهُ تعالى من حاكم حر كريم.
الرياض