تعد قصيدة (الأرض الخراب) أو (الأرض اليباب) العمل الشعري الذي اشتهر به إليوت، وهي من أكثر القصائد إثارة للجدل حولها؛ لطبيعة بنائها وتشكيلها الشعري فضلاً عن محتواها الزاخر بوصف التشاؤم واليأس والآلام البشرية والمعاناة. وقد صرح إليوت في هوامشه على قصيدته الطويلة باعتماده على نصوص شعرية ودينية وثقافية من مختلف الثقافات أدخلها في نص قصيدته الطويلة.
ويبدو أن إليوت ينطلق بوصفه شاعرًا وناقدًا من فكرة أن الشاعر لا يمكن أن ينتج قصيدة بمعزل عن تأثره بالسابقين. جاء هذا التأكيد في مقالته (التقليد الأدبي والموهبة الفردية) ولعل تضميناته واقتباساته الكثيرة التي زخرت بها قصيدته (الأرض الخراب) تمثل هذه الرؤية النقدية مطبقة على الشعر.
وللدكتور عبد الله الطيب مقالة قديمة بعنوان (الفتنة بإليوت خطر على الأدب العربي) نشرت سنة 1982م أشار فيها إلى أخذ إليوت من الأدب العربي دون الإشارة إليه كما فعل مع كثير من النصوص التي ذيل لها بحواش طويلة في آخر قصيدته. وخلاصة بحث الدكتور عبد الله الطيب أن إليوت قد اعتمد بشكل خاص على معلقة لبيد، وأنه اعتمد في مطلع قصيدته (الأرض الخراب) وفي عنوان الجزء الأول منها على الأبيات الأوائل من معلقة لبيد، وأنه ضمّن القصيدة شيئًا من معلقة امرئ القيس وشعر ذي الرمة وأبي تمام وإشارات من القرآن الكريم، واستفاد من فنون البلاغة العربية كالبديع والتشبيه المقلوب.. الخ
وقد كتب كذلك الدكتور محمد أحمد البدوي في كتابه (أوتار شرقية في القيثار الغربي) عن الموضوع نفسه، وقد خصص له فصلاً بعنوان (ماء السماء الإسلامية في قصيدة الأرض الميتة) ولكن تصدى للتعليق على آراء د. الطيب والرد عليها (عبد المنعم عجب الفيا) في مقالة نشرها سنة 1993م، وفي معرض ذلك توقف عند فكرة أن الدارسين تجاهلوا تأثر إليوت بالخيام في رباعياته.
وقد صرح إليوت نفسه بتأثير رباعيات الخيام على نشأته الشعرية في ست مرات على الأقل في مناسبات مختلفة. وقد ذكر إليوت ذلك صراحة في كتابه (فائدة الشعر وفائدة النقد) فقد قال في معرض حديثه عن تطور الذوق في الشعر : «لقد ظللت لعدة سنوات لا أشعر بأي رغبة في قراءة الشعر، إلا أني أذكر جليًا تلك اللحظة وقد بلغت الرابعة عشرة حين التقطت نسخة من رباعيات الخيام... كانت ملقاة إلى جانبي. لقد منحتني الرباعيات مدخلاً لعالم جديد من المشاعر، بدا وكأنه انقلاب مفاجئ في حياتي. لقد غدا العالم في نظري وكأنه عالم مصبوغ بالضوء وممزوج باللذة والألوان المؤلمة. «(1)
ولكنه عاد في مقابلة له مع إحدى المجلات ليقول إنه أتلف القصائد التي كتبها بتأثير الخيام. وهو قول كما يرى أحد الدارسين يؤكد تغلل الرباعيات في وجدانه وانسرابها في مخيلته.
وهذا يذكر بالنصيحة العربية القديمة لمن يريد أن يبدع شعرًا ، النصيحة التي ترتكز على ضرورة حفظ آلاف الأبيات من الشعر والخطب وغيرها ثم نسيانها. وهو ما يؤكد أن المخزون في اللاوعي يبقى وأن نسيته أو تناسته بشكل مباشر الذاكرة القريبة.
ولكن الخيام نفسه تأثر بالمعري، وربما وصل لإليوت أثر المعري عبر الخيام ـ وقد أشار عدد من الدارسين إلى تردد بعض أفكار المعري في شعر الخيام. وأكثرها دورانًا في الرباعيات الفكرة الشعرية القائلة (إن تراب الأرض ما هو إلا من أجساد البشر متراكم عبر العصور) يقول المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا مــن هــذه الأجــسـاد
وقد كانت التضمينات والاقتباسات من مختلف العصور والثقافات في القصيدة عند إليوت فكرة نقدية محورية وممارسة شعرية تنطلق من الإيمان بوحدة التجربة الإنسانية؛ حيث يؤمن بأن مهمة الفن تتركز في النفاذ إلى الرؤية التي توحد التجربة الإنسانية وتمثلها عن طريق الفكر وعن طريق الجمع بين الماضي والحاضر في قصائده التي احتشد لها بالأساطير والاقتباسات، حتى يخلق من هذه التعارضات نموذجًا للتناغم والتوازن والانسجام الذي يراه. وقد مثّل ذلك خير تمثيل بقصيدته (الأرض الخراب) التي لا تمثل أزمة الحضارة في مدينة بعينها وإنما تمثل «هذه الأزمة في أي مدينة أخرى من مدن العالم وفي أية لحظة من لحظات التاريخ.»(2) وإذا كان إليوت قد تأثر بالخيام والخيام قد تأثر بالمعري لا سيما في تردد فكرة أن أديم الأرض أجساد متراكمة فإن مثل هذا الصدى عند إليوت يمكن أن نراه في فكرة التضمينات ووحدة التجربة الإنسانية خاصة أن مفردة الأرض وتربة القصيدة مفردتان حاضرتان بقوة في الأرض الخراب، ولعل التنويع انتقل من الأجساد التي تشكل أديم الأرض إلى القول إن أرض القصيدة وترتيبها مزيج متراكم من خبرات البشر وهو ما يمثل وحدة التجربة الإنسانية.
الرياض
rafef_fa@maktoob.com