(أ)
حُدّثتُ عن مُعارضٍ سودانيّ من الحزب الشيوعيّ آيساً من الحكومة والمعارضة معاً: يدّعي (جاداً أو ساخراً) أنّه استمرّ على زيارة لندن في عقد التسعينيّات وكتابة الرسائل للجهات الرسميّة فيها، على أمل لقاء الملكة إليزابيث ورئيس الحكومة لإقناعهما والبرلمان الإنجليزي بعودة احتلال السودان. وتأتي هذه (النادرة) بين الخيال والواقع، تحت إدراك من (المُعارض-أو الراوي) أنّ التناسخَ الحاصل بين الحكومة والمعارضة عاجزٌ كليّاً عن إدارة شؤون البلاد، وتأتي الرواية حينذاك خشية تقسيم اضطراريٍّ صار واقعاً اليوم، نتيجة رجعيّةِ نظامٍ يفصلُ بين مواطنيه على أساسٍ دينيٍّ وعرقيٍّ.
(ب)
يصعبُ اختلاف المعارضة السياسيّة في أيّ نظام عربيّ عن الحكومة نفسها على مستوى إدارة استحقاقات الدولة وموازناتها بين الدخل والإنفاق ورفاهيّة المواطن وأمنه وكرامته المصونة في المعتقد والمعيشة؛ ولكم تعاقبت معارضات بعد انهيار حكوماتٍ وتفكُّك أنظمة، فإذا (هِيَّة: هِيَ هِيَ) الإخفاقات والأزمات؛ ذلك أنّ عوامل مثل: (غياب المنظومة السياسيّة التداوليّة، والخلط بين النظام والسلطة، والمرجعيّات العرقيّة والمذهبيّة) ليست عوائق مقصورة على الحكومات إنّما تشمل حركات المعارضة أيضاً، إن كانت تنظيمات أو فرديّة؛ لأنّ الفردَ فاقدٌ للأهليّة المدنيّة في ظلّ غياب المنظومة المؤسّساتيّة المدنيّة التي يُنادي بها الطرفان: (الحكومة والمعارضة) دون استنادٍ على تشريع يُداول ويوزّع أدوار التنفيذ والرقابة. فهَلْ من دستور عربيّ اليوم يُشرعن التداوليّة السياسيّة بعيداً عن مأسوريّته الاستناديّة إلى مرجعيّات تراثيّة في فهم إنسانيٍّ يُعادي التعدّديّة، ولكم يتناسخ اليمين الثقافي والسياسي والديني مع السلطات في تعطيل الهندسة الدستوريّة وإن كانوا في صفوف المعارضة.
إنّ مناصرة حركات المعارضة لعموميّات عريضة: (كالحريّة والتعدّديّة) ليست ضمانة لأيّ برنامج سياسيّ-اقتصادي، لطالما هي عموميّات لا تنكرها الحكومة أساساً، وهل توجد حكومة ترفض هذه القيم على مستوى الخطاب! إنّما الاحتكام يكون مشروطا بالتنفيذ الواقعي لكل الطرفين، وهو ما ينكشف سريعاً لدى الطرف الممثّل للسلطة التنفيذيّة، أمّا الطرف الآخر فتبقى شعاراته بعيدة عن الامتحان السياسي التطبيقيّ، وحال ما يتحوّل إلى سلطة فإنّ النتائج كوارثيّة: (كما هي في غزّة، والعراق، ليبيا، مصر، سوريّا/سلطة الدم لدى الطرفين)؛ وأمام (شهادة الوقائع على الأرض) تسقط ادّعاءات المعارضة أثناء أيّ تجربة انتخابيّة أو أمام أيّ موقف مخالف، وقد عرّت وقائع الربيع العربي زيْف التعدّديّة في خطاب المعارضة الذي يمارس بوجه (مُعارضة المعارضة) اتّهامات فكريّة وأخرى تصفيات جسديّة.
وإذ يسهل نقد الحكومات العربية بعموميّات: (الاستبداد، العنف، الفساد واختصار الدولة في تيّارها)، فإنّ المعارضة لا ينقصها شيئا ممّا تنعت به خصومها، فهي أيضاً مستبدّة وفاسدة وإقصائيّة، تختصر الإصلاح فيها ولا ترعوي تُحرّض وتُباهي باستخدام العنف والسلاح، وحسبكم مؤتمر الدوّحة، وما أدراك ما أبعاد اعتماد (سابقة سياسيّة هي ليست سياسيّة) تشرعن العنف والتسليح وإباحة الدماء بين دول أعضاء الجامعة!!
وهذا الفهم المغلوط لعمل المعارضة أوقعها في صورة منسوخة وممسوخة بحملان فيروسات الحكومة وإخفاقاتها. فإن تكشف المعارضةُ عجزَ الحكومة فإنّ الأخيرة تورّط المعارضة باستنساخ الصورة التي تنتقدها؛ إذْ يتشابهان في ضعف الفاعليّة، وغياب الرؤية، وطوباويّة البرامج السياسيّة والاقتصاديّة القائمة على العموميّات وإهمال التفاصيل التي هي أساس الإنتاج والإنجاز.
(ج)
تأتي مأزوميّة المعارضة (أوّلاً) أنّها غير شرعيّة داخل النظام السياسي العربي، الذي –إن لم يُحاربها صراحة- فإنّه لا يعترف بها، وهي (الثغرة الحصانة) التي تستغلّها أيّ حكومة لإزاحة الفوارق بينها وبين النظام والاتّحاد به كليّاً، وهذا ما يولّد (الأزمة الثانية) للمعارضة أنّها تواجه حكومة متّصلة بالنظام، وبذلك لا يمكن أن تكون طرفاً في المكوّن السياسي ما لم تعمل عبر أجندتها النضاليّة العلنيّة على المطالبة بفصل التوأمة السياميّة بين الحكومة والنظام. (وثالثة أخرى): أنّ غايتها إسقاطُ الحكومة ومشاريعها، حتّى الإصلاحيّة منها والتنمويّة وليست الغاية في تداوليّة التنفيذ. وأيّ إسهام في إغراق الحكومة حدّ الإنهاك، ومحاربة العاملين بها تحت ثلاثيّة: (التعثّر، الإسقاط، الاجتثاث) إنّما هي أعمال لا تحمل خصائص المعارضة المدنيّة، بل هي أقرب إلى مفهوم العدوّ. علماً بأنّ إسقاط الحكومة مؤشّرُ اضطراب سياسيّ يؤثّر على الاقتصاد الوطني في ميزانه التجاري وتقويم درجة مخاطره، وليس غاية أولى وطبيعيّة في المعارضة المدنيّة. فكأنّ على المعارضة العربيّة اليوم أن تضمّ في أجندات نضالها السلمي الحقوقي معالجة الأزمات الثلاث: (الاعتراف بها تشريعاً، الفصل بين الحكومة والنظام، الرقابة والنقد على قضايا وثغرات تنفيذيّة بتفاصيلها والابتعاد عن العموميات).
وتأتي مأزوميّة الحكومة/السلطة أنّ سياساتها في مواجهة المعارضة المتمثّلة: (بتُهم التعامل مع العدو الخارجي والتصفيّات الجسديّة أو الفكريّة، والتفرّد بالسلطة دون رقابة وانتقاد) هي جزءٌ من تآكل القوّة، فكلّ سلطة مطلقة مفسدة، وليست تنجو السلطة نفسها من أثر غياب الرقابة والنقد.
وبين (فوبيا المعارضة، واستبداد السلطة) تبقى مسائل تحسين دخل الإنسان العربي، وظروف معيشته وتعليمه وطبابته مجرّد شعارات عموميّة في قائمة الدعاية الإعلاميّة اليوميّة بين الطرفين، يحمل كلاهما للآخر مفهوم العدو وليس الشريك أو المنافس، ويسعى لأهداف متناسخة: (الإسقاط، الإقصاء، الاجتثاث) عواقبها جميعة ضدّ الدولة والمواطنين. هكذا لا تكون ممكنات التغيير قائمة في الواقع الفعليّ إلاّ على مستوى الشخوص، أمّا على مستوى النصوص والواقع فإنّ كلا الطرفين يخضعان لمرجعيّات تاريخيّة تشرعن الاستبداد والإقصاء والعنف؛ فإمّا معارضة متطرّفة تريد مزيداً من استغلال الدين في السياسة، وإمّا مدنيّة متطرّفة تبحث عن مصدّق لها عبر أسلمة خطابها خوفاً من الجماهير؛ وكلا تيّارات الحكومات والمعارضة في الواقع الراهن مسكونة في (جلباب اليمين السياسيّ).
(د)
ليس في أجندة هذا المقال أنّ يكسّر قيمة المعارضة السياسيّة، إنّما المقصد انتقادها وفقا (للوقائع على الأرض) وتأثّراً بغياب المنظومة السياسيّة التداوليّة، وليس لخللٍ فيها فقط، إنّما لأسباب تشترك فيها الأنظمة والحكومات أيضاً، وتبقى المعارضة العربيّة محصورة بشخوص-أيّا بلغت قيمتهم المعرفيّة والحراكيّة فإنّهم يتأثّرون بالجماهير، ويخلطون بين الأخلاق والسياسة بحيث إنّهم يرفضون البراجماتيّة السياسيّة تحت تأثيرات العيب الثقافي وهو من مخلّفات الطفولة السياسية، وكلّ ذلك يقلّل من فرص التحوّل البنائي المؤسّساتي في داخل الأنظمة أو داخل هيئات المعارضة، ويبقيها مأسورة في البدائيّة التي تورّطها بمفهوم العدوّ؛ فلئن كانت الأنظمة العربيّة لا تُبدي مرونة في التداوليّة أو اعترافا بالمعارضة، فذلك ليس مبرّراً لأنّ تتبنّى المعارضة إقصاء التداوليّة في أعمالها التنفيذيّة، ومحاربة (معارضة المعارضة) بالأسلوب نفسه الذي تتعرّض له؛ وهو مقتل المعارضة العربيّة في الربيع العربي ومحيطه: رفضها لمن يُعارضها؛ فأنتَ إذ تستحضر ردّات الفعل المتطرّفة ضدّ موقف أدونيس من الحرب الأهليّة في سوريّا، فإنّك لتدرك حجم الاستبداد، وإلى أين تمكّن في نفوس التابعين؛ وهي ردّات فعل صادرة عمّن يحاضرون بوقاحة عن المدنيّة والتداوليّة، ومن حاملين شهادات علميّة من جامعات غربيّة، فكلّ تلك الدراسات والمؤتمرات واللقاءات المشتركة مع الأوروبيّين بقيت عقيمة التأثير وبمنأى عن تطبيع السياسة المدنيّة في ذهنيّة المعارض العربيّ: الذي بَقِيَ نسخاً عن السلطة التي يعارضها، مستبدّاً وتصفويّاً، بشهادة الوقائع على الأرض.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة