هل الاقتناع داء، أم هو وسيلة لإكمال العناصر اللازمة للإنجاز، واستمرار العمل الضروري الجاد؟ هو بالمفهوم الأول في حالات عديدة، يصنع منه الناس مشكلات وعراقيل كثيرة في طريق التنمية، أو تعايش البشر بسلام بعضهم مع بعض. عندما ترى الناس متشبثة بأفكار رديئة موضوعياً، ولا يستطيعون الدفاع عنها حجاجياً، لا لشيء إلا أنهم مقتنعون بأنها تحقق لهم نشوة نفسية، أو شعوراً بالأمان من مجهول لجدته، فإن العقول غير القادرة على التفكير خارج الصندوق المؤطر لأصحابها هي التي توحي بأن ذلك الخيار طريق سالكة في مثل تلك الحالة.
من تلك الحالات ما نجده حاضراً في وسائل التربية لدى بعض المجتمعات التي تعاني من نقص في القيم المدنية؛ إذ يوصى الصغار مباشرة، أو من خلال قصص التمثل، بأن يكونوا ذئاباً لئلا تأكلهم الذئاب الأخرى. لذلك يكون المسالمون في مثل هذه المجتمعات مستضعفين، ولا يأخذون حقهم كاملاً، أو في وقته، بحجة أن من لا يطالب به بكل ما أوتي من قوة، ويزاحم الآخرين ويؤذيهم، فهو لا يستحق أن يحصل على ما يفترض أن يحصل عليه. من أجل ذلك وجدنا حالات التدافع في أي انتظار، لا يكون بأرقام، أو بتنظيم معين؛ بل إن التنظيمات كلها تخترقها عقلية الذئاب، عندما تبحث عمن يقدم لها دوراً من خلف الكواليس (تحت بند الخدمة والنفع بين المعارف والأقارب).
وعلى هذا أيضاً لا يستغرب كثير منا أن تأتي سيارة من أقصى اليمين عند إشارة المرور، لتندفع إلى أقصى اليسار أو للدوران، دون أن يعني صاحبها كل تلك الأرتال من السيارات التي تندفع في مسارات الطريق المختلفة. وإن حدث اصطدام، فإن صاحب تلك السيارة (الذئب المدرب أو الشاطر حسب اقتناع بعضهم) ربما يوجه انتقاداً إلى الآخرين، بأنهم لم يروا سيارته، أو أن عليهم أن يتوقفوا لأنه كان قد أعطى إشارة للاتجاه إلى اليسار، وكأنها تبرر له -في حالة حصولها- قطع كل تلك المسارات مع انطلاق السيارات عند الإشارة الخضراء.
أما وظيفة الاقتناع الإيجابية، فإنها تتحدد من خلال الإيمان بما يعمله الإنسان فيما يُكلف به، أو فيما يقوم به من منجزات في حياته، أو حياة الآخرين في مجتمعه. فعندما يكون المرء مقتنعاً بأدائه، فإنه يحقق درجات عالية جداً من النجاح، لأنه يؤدي ذلك العمل بروح إيجابية تنعكس على قدرته، وعلى دقة النتائج، ورضا الناس الذين يتعاملون معه عن طريقة التعامل. فكيف يتحقق هذا الاقتناع الإيجابي أصلاً لدى الإنسان، لكي يصل إلى هذا المستوى في أدائه؟ أولاً على المرء أن يختار العمل الذي يحبه، إن كان ذلك ممكناً، حتى وإن كانت ميزاته أقل؛ لأنه مع وجود الاقتناع الإيجابي لديه، سيترقى فيه، وينتج أكثر مما لو كان اختار العمل الذي يعطي ميزات أكثر، لكنه لا يحس بالتماهي معه، ولا المتعة فيما يحققه فيه.
والدافع الثاني والأهم، هو أن يكون لدى المرء مبادئ عامة، يشعر بالرضا في حالة اهتمامه بها، والثبات على ما يظنه مفيداً له وللآخرين ولمجتمعه من تحقيق نتائج إيجابية، تثمر عن استمرار الاقتناع بجدوى ما يؤديه، وقيمته النفعية المؤقتة والطويلة المدى.
فإذا توفر هذان العاملان، فإن الإنسان سيشعر بالسعادة في أغلب شؤون حياته، وسيصبغها بروح التفاؤل، لأن الطاقة الإيجابية ستتعزز لديه، مما يعطي حياته كثيراً من المعنى. فهل نسعى إلى الإكثار من مساحة ذلك الاقتناع الإيجابي في حياتنا، ونقلل -بالمقابل- من مساحة الاقتناع السلبي الضار بنا وبمجتمعاتنا؟ هذا ما أتمناه!
الرياض