يعد الإشهار السلاح الأقوى الذي يعمد إليه المسوِّق للتعريف ببضاعته وتمريرها إلى المستهلك، وعادة ما يبنى الخطاب الإشهاري على مجموعة من العناصر الجاذبة التي تغري الأفراد والجماعات باقتناء هذا العرض دون ذاك.
وتكمن أهمية الإشهار في كونه لا يقدم السلعة على أنها منتج جديد فحسب، بل يشكل عنصرا ساحبا حتى لو كانت تلك السلعة أشهر من نار على علم لدى الناس، فمعرفة البضاعة وحدها لا تكفي لاقتنائها، بل لا بد من عنصر حجاجي يجعل المشتري يقصدها دون غيرها، أو يواصل شراءها إن كان قد جربها سابقا.
وداخل هذا الحقل ألفت كتب وأبحاث كثيرة غربية وعربية، ومن هنا لا محل لهذا الجانب داخل هذه المقالة، لكن اللون المعتم في إطار الحجاج الإشهاري هو ما كان خارج حدود التسليع، إذ لم أر في حدود اطلاعي من أولى هذا الأمر اهتماما، أو حتى دعا إلى الحفر في مساره على الرغم من كثرة الدراسات الحجاجية.
وتروم هذه المقالة أن تضع لبنة أولى تمهد لتشييد الأبنية عليها من قبل الباحثين؛ ليكون هذا الدرب لاحبا، ولا شك أن تصويب الأنظار وإعمال المباضع في هذا الحقل سيقود إلى نتائج مهمة وذات قيمة.
سأحاول هنا أن أقدم بعض الأمثلة التي تضيء شيئا من مفارق هذا المشهد الليلي غير المقمر، على أن هاته المقالة لن تمكنني من البسط والتوسع نظرا لضيق مساحتها؛ مما يجعل إعادة مناقشة هذا الموضوع في بحث أو كتاب قادم أمرا محتما.
مع قارون يأخذ الحجاج بعدا إشهاريا {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}القصص 76 سار الحجاج بينه وبين قومه وفق طابع سجالي {قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} القصص76» كان كل قومه قد تم وقفوا منه هذا الموقف، لكنه لم يصغ لمقولتهم بل كان يقول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} القصص78، لم تكن تلك العبارة التي أطلقها لتغير نظرة قومه إليه، فقد استمروا في نصحه وفي تذكيره بنعمة الله عليه {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}القصص77.
وهنا ينقلب الحجاج إشهاريا فيتغير الموقف {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} القصص79، كان هذا البرهان الذي ساقه حضوره الشكلي أقوى من أي بيان أصدره، لقد خلب ألباب ناظريه بملابسه وأساوره الذهبية، فمال شطر كبير من القوم في لحظة واحدة نحوه واقتنعوا بصدق مقولته {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} القصص79، لقد عموا عن مشاهدة أي شيء سوى هذا المنظر الباهر، وأصموا آذانهم عن سماع الناصحين من المؤمنين حينما قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} القصص 80،
{80} {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ {82}
لم تكن مثل هذه الكلمات لتؤثر فيمن فتن بقارون، ذلك أن حجاج المنظر الإشهاري لا يمحوه إلا حجاج منظر إشهاري أقوى منه، ومن هنا نزلت المعجزة ليراها الجميع كما رأوا زينة قارون {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (القصص:81). كان هذا المشهد الإشهاري كفيلا بأن يقلب الموازين وأن يجعل المفتونين به يعودون إلى رشدهم في لحظة ويعلنون توبتهم قائلين: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ( القصص:82).
ولأجل هذا الحجاج الإشهاري قد تتغير الأحكام الشرعية، بمعنى أن ما كان حراما يكون حلالا، عجبا! إلى هذه الدرجة؟، نعم وأكثر بمعنى أنه ربما يكون مندوبا إليه لا واقعا في إطار الحل فقط.
رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يوم بدر مصلتا سيفه قد عصب رأسه بعصابة حمراء وجعل يتبختر ويختال في مشيته بين الصفوف، وقد أذكى صنيعه الحماس بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.
إن هذا اللون من الإشهار لا يصل إلى مستواه التأثيري حثٌ أو تشجيعٌ أو خطبةٌ عصماء تكتفي بالكلام ولا تدخله حيز التنفيذ.
وقد سلك المصطفى صلى الله عليه وسلم سبيل الحجاج الإشهاري مع أعدائه في مواطن كثيرة، ولعلي هنا أكتفي بمثالين نزولا عند الطبيعة المقالية التي لا تمكِّن من الشرح والإيضاح بمزيد من المشاهد والأمثلة.
أُسر أبو عزة الجمحي يوم أحد؛ فجعل يستعطف الرسول صلى الله عليه وسلم لعله يطلقه، ويعفو عنه، فقال: من للصبية؟ (يقصد أبناءه)، فقال الرسول: لهم النار، ثم أمر بقتله صبرا، فدقت عنقه، وعلق رأسه، كما تذكر بعض الروايات.
ذلك أن أبا عزة لم يكن جديرا بالإحسان فقد أُسِر يوم بدر وأطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم واشترط عليه ألا يخرج مع المشركين لقتال، لكنه خان العهد، وجعل يؤلب الناس على المسلمين وخرج مع المشركين يوم أحد؛ ولذا كان العقاب إشهاريا، ليقطع به الرسول صلى الله عليه وسلم خداع رجل مرد على النفاق، وليكون ذلك ردعا لأمثاله من أهل المراوغة، فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: «لا والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمداً مرتين».
وعندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاصدا العمرة في آخر سنة ست من الهجرة ساء ذلك قريشا فقصدتْ إلى إرهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إرهابا كلاميا يقوم على حِجاج لفظي، لقد أرسلوا له عروة بن مسعود الثقفي، فلما مثل بين يدي رسول الله قال: يا محمد أجمعتَ أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت ومعها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء -يقصد أصحاب الرسول- قد انكشفوا عنك غدا (أي تركوك وحدك تواجه مصيرك).
إن هذا التهديد الممزوج بالحِجاج الكلامي لم يفت في عضد المسلمين؛ ولذا كان رد أبي بكر الصديق عليه قويا؛ لأن كلام عروة بن مسعود مظنة المبالغة أو الادعاء، لقد لجأ النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء لفتح مكة إلى الحجاج الإشهاري، ولم يعمد إلى إرهاب المشركين عن طريق الكلام في هذا الموطن، بل تكتم على قدومه إلى مكة وأمر المسلمين بالكتمان، حتى إذا اقترب ليلا من أم القرى أمر كل فرد من المسلمين أن يشعل نارا، وكان عدد المسلمين وقتئذ عشرة آلاف رجل، إن الهدف من ذلك يكمن في تقديم حِجاج إشهاري يؤكد كثرة المقاتلين ويظهر لقريش أنه لا قبل لهم بهذا الخميس الزاحف، إذ من المعتاد أن تشعل كل مجموعة نارا، فإن أشعل كل مقاتل نارا توقع العدو أن العدد يفوق الواقع أضعافا مضاعفة؛ فدب الرعب في قلوبهم وسلموا دون قتال.
ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقدوم أبي سفيان أمر الجيش بأن يستعرض فمرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، بدأ خالد بن الوليد فركب في ألف من بني سليم، ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمائة، واجتاز أبو ذر الغفاري في ثلاثمائة من بني غفار، ثم مرت أسلم في أربعمائة، ثم بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، ثم مزينة في ألف مقاتل، وبعدها مرت جهينة في ثمانمائة، ثم بنو ليث فبنو أشجع...إلخ.
أطار هذا الحِجاج الإشهاري لبَّ أبي سفيان، فقال للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فرد العباس عليه: ويحك إنها النبوة! وعلى أثر هذا الموقف أعلن أبو سفيان إسلامه، وذهب إلى كفار مكة يخذِّلهم.
وبعد، فتلك كانت نماذج اخترتها لإبانة مفهوم الحِجاج الإشهاري بعيدا عن الجانب التسليعي، آملا ألا تكون سرعة العرض وقلة الشرح حائلة دون وصول جدوى الاهتمام بهذا اللون من الإقناع، واعداً بإذن الله بمزيد حديث عن أبرز آليات هذا الفرع من العلم في مقالات قادمة.
الرياض