ج _ اللغة تصنف الجنون:
- تستعمل اللغة في الدلالة على الجنون على مستوى الفعل صيغةَ المبني للمجهول، أو «ما لم يسمّ فاعله» بحسب مصطلح متقدمي النحاة، وتستخدم صيغة «المفعول» للدلالة على من اتصف به (جُنَّ - مجنون)، يقولون: جُنَّ فهو مجنون، وإذا قالوا: جُنَّ فمعنى قولهم: جُعل فيه الجنون، وإذا قيل: مجنون، أي: مفعول به الجنون، كما يقال: سُلَّ فهو مسلول، وزُكِم فهو مزكوم، وحُمَّ فهو محموم، وشَؤُمَ فهو مشؤُوم، ويَمُنَ فهو ميمون، قال أبو حيان التوحيدي:
«يقال: يَمُنَ فلانٌ عليهم وشَؤُمَ، وهو: ميمونٌ ومشؤوم؛ جُعل الفعل على طريق ما لم يسم فاعله، لأنه شيءٌ موصولٌ به من غير إرادته واختياره. وإنما نزعوا إلى قولهم: فلان مشؤوم ليكون الفعل واقعًا به- أعني المكروه - وإلا فهو شائمٌ في الأصل».
لهذا أيضاً حكم جمهور النحاة واللغويين بشذوذ صيغة التعجب من الفعل (جُنَّ) ومن اسم المفعول (مجنون) على (ما أجنّه)؛ لأنَّ التعجب إنما يكونُ ممن له قدرةُ الفعل، أو بلغة النحاة من صيغة «فعل الفاعل» وليس من صيغة «فعل المفعول».
هاتان الصيغتان اللغويتان المتواطئتان على تقديم الجنون في علاقته الإسنادية من خلال موقع الفعل المبني للمجهول (الذي لم يُسمَّ فاعله)، وتسمية المتصف به من خلال صيغة اسم المفعول (الذي وقع عليه الفعل)؛ توجّه المستخدم/ المتلقي لها إلى أن «الجنون» يأتي من غير اكتساب حقيقي، وأن «المجنون» مكرهٌ على ما هو فيه، وأنه بمنزلة المحبوس في ظلام الجنون...
- تمنع اللغة من أن يأتي من «ج.ن.ن.» صيغة صرفية للفعل المعلوم (الذي سمّيَ فاعله)، إلا إذا دلت على أن الجنون «مدعى من موقع العقل»، مثل صيغتي: (تفعّل= تجنَّنَ)، و(تفاعل= تجانن- تجانَّ)، وهاتان صيغتان تدلان على تكلف الجنون من غير حقيقة، مثل: تعالم، وتفانن، وتفنّنَ، وتناعس، وتناوم، وتكاسل، وتطاول، أي: فعل بنفسه ذلك على غير حقيقة. فهذه الصيغة تثبت لصاحبها إرادة الجنون وطلبه؛ لأنه يفعل ذلك من موقع الإرادة/القصد= العقل! وإن وقع موقع الجنون؛ فإنه موقع مدعى ادعاءً، وآنذاك تمنحه اللغة الحق في أن يستخدم صيغة الفعل المعلوم (ما سمي فاعله).
- يكثر في الاستخدام اللغوي الإسناد إلى الجنون بفعل «نُسِبَ- رُمِيَ- اتهم- وصِف»، وذلك يعني ارتباط الجنون بالآخر الذي له الحق في التصنيف، وأنّ ظهور الجنون/المجنون مشروط من خلال وجود ذلك الآخر. فهنالك مرجعية ذات سطوة يتوافر لها الحق في الدفع بالظواهر أو الأفراد إلى خارج النظام- إلى عالم الجنون.
إنّ الجنون- في وعي اللغة- إذا غير قادر على أحداث فعل الهوية! وإنّما تحصل له هويته من موقع آخر هو: موقع العقل/النظام، وقد نفهم ذلك أكثر لو عرفنا أن «الفعل» موقع ثقافي لا يمنح إلا وفق اشتراطات محددة؛ ومن ثمّ فإنه يمنح للعقلاء ويسلب من المجانين.
ولعلَّ في هذا ما يكشف عن أن الجنون كوجود اقترن بالحاجة إليه لصالح الوجود المعياري- العقل، وينشأ أو يستغل من قبله، حتى وإنّ تكلَّفَ فردٌ (ما) الجنون فإن ادعاءه للجنون لا يكون إلا من خلال موقع العقل (موقع الإرادة: تجنَّنَ- تجانَّ)، فتحقق الوجود للجنون يأتي دائمًا من خارجه، سواء أكان من خلال: النسبة إليه، أو من خلال ادعائه...
- ذكرت الدكتورة رجاء بن سلامة أنه قد «أوجد عقلاء المجانين مفعولاً لفعل «جُنَّ» يتعدّى إليه بحرف «عن». لكنها لم تحاول الكشف عمّا وراء الاستخدام من الدّلالة!
والأمانة العلمية تقتضي منّا- هنا- تصحيح تلك الملحوظة التي ذكرتها الدكتورة رجاء فننبه إلى أن التعدية بحرف «عن» مستعمل في اللغة من قبل. ومن ذلك ما رواه ابن الأعرابي عن العرب: «جن عين أي: ما جُنَّ عنِ العينِ فلم تره». ومنه قول قتادة:» قال قتادة: جنّ [الشيطان] عن طاعة ربه»، وقول سفيان بن عيينة: «لقد أدركنا الناس وهم إذا بلغ أحدهم الأربعين سنة جن عن معارفه، وصار كأنه مختلط العقل من شدة تأهبه للموت».
ويمكن القول: إنّ الفئة التي عرفت في التراث بـ»عقلاء المجانين» قد طورت استخداماً لغويّاً جديدًا (صيغة لغوية تجمع بين الإثبات والنفي)، لصرف الجنون عن شيء بحرف الجر «عن»، للدلالة على الانقطاع عن الشيء، والاحتجاب عنه، وتثبته بالنفي (ما- لا) بعد ذلك. وهي صيغة: «جننتُ عن... لا عن...»، و»جننت عن... وما جننت عن....»، وما شابهها. وذلك لتوجيه الجنون الوجهة التي يريدها المجنون! في مقابل الصيغة الرسمية التي تنسب الفرد إلى الجنون لإلغائه ونفيه.
وهذا يكشف عن محاولة تلك الطائفة المُشْكِلة من المجانين في التراث انتزاع حقها؛ بتوجيه تجربتها في الجنون نحو التصنيف الذي تختاره هي، وذلك في مواجهة فعل «التصنيف الرسمي» الصادر من الآخر- النظام؛ ما يعني سعي هذه الفئة لامتلاك هويتها! وقدرتها على إنتاج الخطاب!
-«قال ذو النون: قلت: لغليِّمٍ: لِمَ سُمّيتَ مجنونًا؟! قال: أنا مجنونٌ عن معصيته، لا عن معرفته!».
- «قال رجل لعليان المجنون: أجننتَ؟ قال: أما عن الغفلة فنعم، وعن المعرفة فلا. قلتُ: كيف حالك مع المولى؟ قال: ما جفوته مذ عرفته، قال: قلتُ: ومذ كم عرفتَه؟ قال: مذ جعل اسمي في المجانين.».
فهوية «الجنون» هنا إذن تخضع لاشتراطات المجنون! وهي مختلفة عن هوية الجنون كما يقدّمها الآخر- العاقل. وهذا ما يجعل الجنون يستحق عناية خاصة تدرسه من حيث: تحقق شروط إنتاج الخطاب، وكيفية تداوله، وقدرته على امتلاك صوت خاص به. وهو ما نطمح لاستكمال الوقوف عليه في بحث قادم- إن شاء الله تعالى- يُعنى بما أسميناه في مقدّمة الدّراسة «استعادة خطاب الجنون».
- وهنا يمكن أن نبدي ملحوظةً أخرى بإزاء ما تقدم ذكره؛ من كون: تحقق الوجود للجنون يأتي دائمًا من خارجه، سواء أكان من خلال النسبة إليه، أو من خلال ادعائه. وهي: أن انتزاع التأكيد على الهوية لدى طائفة «عقلاء المجانين»، يأتي من الموقع الثاني للعقل؛ أي: من خلال: الجنون المدّعى (تجانّ- تجنَن)، فالمؤسسة اللغوية لا تعطينا خيارًا ثالثًا.. ويمكن أن نستأنس هنا بما رواه النيسابوري في كتابه «عقلاء المجانين»:
كان أبان بن سيار الرَّقيُّ رئيس القراء والفقراء بالرّقة، وكان مع ذلك يرجع إلى علم؛ فأكل الذئبُ بُنَيًّا له وكان واحِدَه، وكان مشغوفاً به، فلم يتمالك، وهام على وجهه، فغاب مليًّا ثم عاد وقد برم بالناس؛. فجَنَّنَ نفسَه، وجعل لا تطمئن به الدَّار ولا يستقر به القرار، فخُبِّرتُ بشأنه فأتيته في أصحاب لي، فألفيته في الجامع يكلم بعض الأساطين، فقلت: يا أبان، أجننتَ؟! قال: نعم، عندك وعند أضرابك. فقلت: وكيف؟! فأنشأ يقول:
جُنِنْتُ عن عقلي لديكم وما
قلبي واللّه بمجنون
أَجَنُّ مني وإلهِ الورى
من اشترى دنياه بالدين»
****
فالثقافة إذن تستجيب للجنون من موقع لغوي غني، يوجّه المستخدم والمتلقي إلى: أن الجنون يأتي من غير اكتساب حقيقي، وأن المجنون مكرهٌ على ما هو فيه، وأنه بمنزلة المحبوس في ظلام الجنون. ومن ثمّ تدفع اللغة نفسها - من خلال أنظمتها وصيغها- بالمسؤولية عن كاهله. ولا تتيح اللغة للمجنون امتلاك هويته، وتمنح هذا الحق للآخر/ العاقل، لكنها تعطي الحق في الانتساب إلى الجنون شريطة أن يكون ذلك الانتساب مدعى من موقع العقل. ولا يمكن للغة أن تتصور خلاف ذلك فتجعل من إسناد الفعل جن إلى الفاعل المعلوم. كما تفصل اللغة بين مسردين متجاورين، هما: مسرد الجنون، ومسرد الحمق، إذ تجعل من الجنون وما تحته احتجابًا وانقطاعاً عن النظام السائد (العقل)، في الوقت الذي يكون فيه الحمق وما تحته كسادًا وعجزًا عن العمل بما في ذلك النظام.
واللغة بتقسيماتها وصيغها تحمل في معيتها كونًا دلاليًّا؛ و»تنقل إلى الإنسان نسقًا جاهزًا من القيم»، لأن اللغة أكثر من أن تكون مجرد وسيلة اتصال؛ إذ هي بنية تحتية تحدد وجود الأفراد وطريقة سلوكهم، وتشرط فكرهم ورؤيتهم للعالم - كما أسلفنا؛ فاللغة تجبر على القول، وتسرب مع صيغها اللفظية وجهة نظرها، ولذلك حكم رولان بارت على اللغة بأنها:» فاشية الطبع؛ ذاك أن جوهر الفاشية ليس هو أن تمنعك من القول، بل أن تجبرك على القول!».
رئيس نادي أبها الأدبي
أبها