1- تعرّضتْ اللغة العربية - خلال القرنين الماضيين - لكثيرٍ من التحديات وربما الانكسارات، منها ما هو مرتبط بموجة الاستعمار التي أصابت بعضَ الدول العربية كمصر والعراق والجزائر على سبيل المثال، ومنها ما هو مرتبط بجوانب فكرية يحاول الكثيرون وصلَها بالاستعمار، كالدعوة إلى العامية أو الدعوة إلى تدريس العلوم باللغات الأجنبية..
إزاء هذه التحديات تحركتْ غيرة علماء الشريعة والمتخصّصين في الدراسات اللغوية بداية من منتصف القرن الماضي، وفرضت عليهم مواجهة هذه الهجمة الشرسة، فصدرت رسائل ومؤلفات، وتشكلت مجامع وهيئات، وانغمس أكثرُ الباحثين في الدفاع عن العربية، ومواجهة المشاريع التي تستهدف وجودها..
ورغم القيمة التي تشتمل عليها هذه القنوات فإنّ طابعها العام هو الطابع الدفاعي الصرف، وقليلٌ منها ما كان يحمل همّاً لتطوير اللغة العربية من الداخل، أو تطوير عمليات تعلُّمها وتعليمها، وربما كان هذا المأخذَ الأكبرَ على الحملة الدفاعية التي انتصرت إلى حد ما في خلخلة الحملة الهجومية، دون أن تجهِّز رؤية كافية لإدارة المستقبل (أو إدارة مرحلة ما بعد الهجمة)، ويمكن أنْ نتمثّل كلَّ ما أنجز في خدمة اللغة العربية خلال المدة الزمنية الماضية بالسياقين الآتيين:
الأوّل: السياق الدفاعي الصرف: وتندرج تحته:
> المحاضرات والندوات والمؤلفات والمقالات التي تجعل هدفَها الرئيسَ الاحتفاءَ باللغة العربية وبتاريخها وبقيمها الفكرية والجمالية، وهذا المنجز - رغم الدور الكبير الذي أدّاه في مرحلة زمنية مهمّة - يتأسس على الإنشائية والتفاخر، ويذهب بعيداً في تمجيد اللغة العربية وتقديسها، دون أن يقدِّم للعربي المعاصر حلولاً نافعة لمواجهة احتياجاته اللغوية (انظر: الضبيب: اللغة العربية في عصر العولمة).
> الأنشطة العلمية والمؤلفات والمقالات التي تعالج جوانبَ تخصّصية في اللغة العربية، وتميل إلى تكريس القواعد التي فُرِغَ منها، والالتفات بشيء من الحذر المشوب بالتساؤل إلى دعوات أو محاولات التجديد..
ويمكن أن ندرج تحت هذا القسم الرسائل العلمية التي تعالج جوانب دقيقة في التخصّص...، وتحدِّد أهدافها الرئيسة بالجمع أو التحقيق أو الموازنة...؛ مما يجعلها محاولة لإعادة إنتاج التراث في صورة بحوث حديثة (كما يرى المرجع السابق).
السياق الآخر: سياق تطويري/ بذور المشروع: وتنشط فيه:
> الأنشطة والمقالات التي تناقش وضعَ اللغة في عصر العولمة، وقضية التحوّل منها أو إليها، والرؤى والمقترحات التي تصبّ في تطويرها ودفع عجلتها..
> الأنشطة والأوراق العلمية التي تقدّم مقترحات جديدة لطرائق تعلّم اللغة العربية وتعليمها، كتعليم اللغة العربية لأغراض خاصة، أو المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وما شابههما...
2- إنّ الإضاءة السريعة السابقة تشير - بشكل أولي - إلى المشكلة الحقيقية التي أحاطت باللغة العربية، وأفضت بها إلى هذه الحال المتردّية، وتُبْرِزُ لنا كيف أنّ سَدَنَتها هم الذين فرضوا عليها العزلة والتعثر من حيث أرادوا لها الانفتاح والانطلاقة...، يظهر هذا من خلال استغراقهم في عمليات الدفاع على حساب عمليات البناء والتطوير، وانشغالهم بالاحتفاء عن المراجعة والتقويم، وبانقطاعهم إلى «التدابير اللغوية» - كما يعبّر نهاد الموسى - عن السياق الثقافي العام الذي يمنح اللغة حرية التحرّك والتجدّد...؛ الأمر الذي يجعلنا - شئنا أم أبينا - بإزاء عقلية غير صالحة للنهوض بمسؤوليات اللغة العربية، إن لم يكن على الدوام ففي هذا الزمن على الأقلّ : زمنِ العولمة، أو زمنِ ما بعد الحداثة، أو زمنِ انفجار الاتصالات بما له من اعتبارات وعثرات...
وتشير هذه الإضاءة أيضاً إلى أنّ اللغة العربية خُدمت بالنظري أكثرَ مما خدمت بالتطبيقي/العملي، وأنّ خدمتها نهضت على وعي أفراد متفرقين، ثم على وعي جَمْعِي محدود، لم يأخذ شكل العمل المؤسّسي، الذي يتكئ على إستراتيجية واضحة، تستحضر الظرف الزمني، وتمتلك القدرة على ترتيب الأوّليات، ولديها من الانفتاح ما يجعلها جريئة في مراجعة اللغة، واستثمار ما يمكن استثماره من الخيارات في تطويرها من الداخل، أو تطوير أدوات تعلّمها وتعليمها.. ويمكن أن نعبّر عن المآخذ السابقة كلِّها بأنها نتاج العقلية اللغوية التقليدية، وهي - رغم فضلها الكبير في الحفاظ على اللغة ومواجهة الدعوات المضادّة لها كما أسلفنا - مسؤولةٌ عن التردّي الذي عاشته اللغة العربية فيما بعد، وما زالت تعيشه حتى يومنا هذا.
3- ثمّة جزئية مهمّة لم يلتفت إليها - في أواخر القرن الماضي – إلا عدد قليل من الباحثين، هي أنّ حلّ القضية اللغوية ليس لغوياً خالصاً، بقدر ما هو مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً بالمؤسّسات القائمة، هذا يعني أنّ التدابير اللغوية الخالصة جزء من كلّ، وستظلّ – رغم أهمّيتها - تملك قدرة محدود ة إنْ هي عملت بقوّتها الذاتية وحدها (انظر: نهاد موسى: قضية التحول).
إنّ المتتبّع للمجالات الكفيلة بتوسيع دائرة اللغة العربية الفصحى يجدها مرتبطة بالقرار السياسي، فالتعليم ومناهجه، والإعلام وبرامجه، والشروط العامة للتوظيف، وما إلى ذلك...كلها مرتبطة بقرار سياسي من شأنه الانتقال باللغة العربية من دائرة (الهامش) إلى دائرة (المتن) لكنْ من المتقرّر أنّ القرار السياسي كان أقلَّ اهتماماً بهذا الملف مما ينبغي، ويمكن أن نتمثّل جانباً من نشاطه النقاط الثلاث الآتية :
> قرارات سياسية تأخذ طابعاً دفاعياً، من ذلك الأمر السائد في عدد من الدول العربيّة بمنع استخدام الحروف أو الكلمات الأجنبية في تسمية المحلات التجارية، نجد هذا النظام (أو التنظيم) في السعودية، والعراق، والجزائر، وسورية، والسودان، والأردن، وعمان، واليمن، وغيرها...
> مواقف سياسية تميل إلى تغليب الاستخدام العربي على الاستخدام الأجنبي عند التعاطي مع الأدوات الحضارية المستوردة، وهو موقف مهمّ استطاع أن يحسم الموقف لصالح العربية في كثير من الحالات كما يرى د.الضبيب.
> قرارات سياسية تتحرّف إلى إنشاء جهات تُعنى بخدمة اللغة العربية، وهناك عدد كبير من المجامع اللغوية، والجمعيات، والمراكز، واللجان، التي أنشئت لأغراض متعدِّدة، لكنها لا تخرج من حيث الجملة عن دائرتي حماية اللغة العربية وخدمة دراساتها.
إنّ العرض السابق لأبرز المواقف السياسية يشير إلى توفّر القرار السياسي بصيغة من الصيغ (في العالم العربي تحديداً) لكنّ الميدان يشير إلى غياب الأثر الواضح لهذا القرار؛ مما يعني أنّ هناك خللاً كبيراً في هذا السياق، يمكن أن تفسره إحدى الفرضيات الآتية:
> وجود القرار مع غياب الإرادة الصادقة لتنفيذه.
> وجود القرار مع غياب الدعم الذي تتطلبه عملية التنفيذ.
> وجود القرار مع وجود بعض العقبات الإدارية تعترض عمليات التنفيذ (البيروقراطية).
> وجود القرار مع غياب الرقابة الكافية على عمليات تنفيذه.
وجميع هذه الفرضيات تفضي بنا إلى نتيجة واحدة، هي أنّ القرار السياسي الخاص باللغة العربية في العالم العربي معلّقٌ في الفراغ، لا يحتفظ بما للقرارات الفاعلة من معطيات موضوعية متاحة، وشروط لازمة، ينبغي توافرها (يرى نهاد موسى، ص216) أي إن هناك خللاً إدارياً صرفاً يعطّل هذه الإرادة (على افتراض توفرها)، ويمكن أن نعبّر عن هذا الخلل بـ الجانب الإداري أو (البيروقراطية).................................... (يتبع)
@alrafai
الرياض