أشكر أولا الذين أحسنوا الظن بي، وحملوني أمانة الحديث عن رجل فاضل هو: المفكر علي عبد القادر عثمان حافظ (رحمه الله) المولود في المدينة المنورة عام 1327هـ المتوفى عام 1407هـ والدته السيدة فاطمة صادق السعيدي، وهما اللذان وصفهما في كتابه « نفحات من طيبة» (ص9) بأنهما « شجرتا الفل اللتان كانتا تظللنا بأوراقها، وتحتضننا بأغصانها، وتنعشنا بأريج عطرها» تعرفت عليه لأول مرة عام 1389هـ في منزل الشيخ حسين شبكشي (رحمه الله) وتعرفت معه على نخبة من أدباء المدينة المنورة ومثقفيها، أبرزهم الشيخ الفاضل ضياء الدين رجب رحمه الله، والأستاذ ياسين طه رحمه الله، والأستاذ الكبير محمد حسين زيدان رحمه الله، وكنت آنذاك مذيعا في الإذاعة السعودية، فشجعني الأخ الأكبر علي حافظ، وأخذ بيدي، وأمدنـي بأنواع عديدة من العلوم، والمعارف، والفنون. وتوثقت علاقتي به على نحو أفضل وأحسن بعد ذلك، ولا أدري من أين أبدأ الحديث عنه؟ أعندما كان طالبا في حلقات المسجد النبوي الشريف؟ أم عندما كان كاتبا في المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة؟ أم عندما عمل بمديرية الزراعة؟ أم عندما تولى رئاسة بلدية المدينة المنورة؟ أم بوصفه واحدا من: رواد الثقافة، والإعلام، والفكر في المملكة العربية السعودية؟ أم عندما شارك مع أخيه عثمان حافظ رحمه الله، في تأسيس صحيفة المدينة المنورة عام 1356هـ؟ أم عندما أنشأ وأخوه عثمان، مدرسة الصحراء الابتدائية في المسيجيد؟ أم عندما طور العمل الصحفي السعودي، فأسس شركة ضخمة، أصدرت العديد من الصحف والمجلات، أبرزها حاليا صحيفة الشرق الأوسط.
أقول حقيقة لا أدري من أين أبدأ الحديث عنه. ولكن دعونـي أبدأ بدعاء له لرب السماوات والأرض، لله الخالق، البارئ، المصور، من له الأسماء الحسنى. اسمعوه فضلا وهو يقول:
يا ربِّ إن ذنوبـيَ لا عِدَادَ لـها
مِثْلُ البحارِِ ومِلْءُ السّهْل والجَبَلِ
وليسَ لي يا إلـهي مَنْ ألوذُ بِهِ
سوى رِضَاكَ وصَفْحٌ مِنْكَ عَنْ زَلَلِي
لقد شَعَرْتُ بأخْطائي تُلازِمُنِي
وتَقْصِمُ الظَّهْرَ مِنْ هَوْلٍ ومِنْ ثِقَلِ
لكنْ رجائيَ أنّ اللهَ يَغْفِرُ لي
وأنّ عفواً إلـهِي مُنْتَهَى أَمَلِي
آثرت أبدأ بـهذه القصيدة، وعلى الرغم من أنني قرأتـها منذ سنوات خلت، إلا أن استعادتـها الآن، تذكرنـي بالسنوات الأول من عمري، التي أمضيتها في طيبة الطيبة، بعد وفاة والدتـي رحمها الله في مسقط رأسي ( ينبع البحر) وأنا ابن أربع سنوات، ورغبة الوالد رحمه الله الاستقرار في المدينة المنورة.
بين مولد المفكر علي حافظ ووفاته، فسحة من الزمن اسمها العمر. وعمر الإنسان ما قدم وما أخر. لا تستطيع أن تفصل البداية عن النهاية، ولا القديم عن الجديد، تلك سلسلة متصلة الحلقات، وفي كل حلقة من حلقاتها: مواقف، وعظات، وعبر، وآلام، وآمال، ورؤى، وصدق الله القائل» تلكَ الدارُ الآخرةُ نجعلُها للذينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الأرضِ ولا فساداً، والعاقبةُ للمتقين» (سورة القصص، الآية 83).
المفكر علي عبد القادر عثمان حافظ، موسوعة علمية متحركة في كل اتجاه. شاعر نظم في كل ميدان من فنون الشعر. اسمعوه- فضلا- وهو يعبر عن حنينه وأشواقه إلى المدينة المنورة عام 1387هـ:
سقاكِ اللهُ يا تِلْكَ المغانـي
بِطَيْبَتِنَا فما أحلى رُبَاهَا
وباكَرَها النسيمُ بِكُلِّ عِطْرٍ
يفوحُ شذاً وينمُو فـي ثَرَاهَا
فَمَا أحْلى الـمَقِيلُ بِسَفْحِ سِلْعٍ
وفي وادي العقيقِ وفي قُرَاها
وفي وادي قناةَ لنا رِفَاقٌ
كَزَهْرِ الرّوّضِ بلّلَهُ نَدَاهَا
إلى أن يقول:
هي البلدُ الذي آوى رسولاً
مِن الموْلَى المهيمنِ في ثَرَاهَا
هي البلدُ الذي ضحّى بِمالٍ
ونَفْسٍ حينَ ضَنّ بِـها سِوَاهَا
هي البلدُ الذي مَنْ رامَ خيراً
وهَدْيَ اللهِ أَوْغَلَ فـي هُدَاها
بـها الأنصارُ أبطالٌ أُبَاةٌ
حُمَاةُ الدّارِ إنْ آتٍ أَتاهَا
قلتُ: إن الرجل موسوعة متحركة. له رؤى في كل أمر من أمور الحياة. أحاول في هذا اللقاء أن أقدم نماذج منها، ليستلهما الناشئة، ويتأمل فيها كل من له قلب أو سمع. ابدأ بالابتكارات والاختراع ات. توقع «من الطلاب المتفوقين، الذين يعكفون على دراسة العلوم الصناعية، والإلكترونية، والكيميائية، وعلوم الحديث، والقضاء، والذرة، أن ينكبوا على البحوث، والاختراع، والإبداع، والابتكار، لندرك القافلة، قبل أن تتركنا وراءها، وأن تهيأ لهم الأجواء، والمواد، والآلات» وهكذا كان. تعج الجامعات السعودية، ومراكز البحوث العلمية المختلفة، بآلاف من الطلاب والطالبات، ممن أسهموا ويسهمون في تحقيق التنمية المستدامة في المجتمع السعودي.
رؤية المفكر على حافظ هذه، نشرت عام 1388هـ، وأنتم الآن في عام 1434هـ وأكثر من مائة وخمسين ألف طالب وطالبة سعوديين، مبتعثين إلى مختلف مجتمعات العالم المتقدم، ليعودوا إن شاء الله، وهم مسلحون بالعلم، فهيؤوا لهم العمل.
هاكم رؤية ثانية. وأبدأ بسؤال: كيف كان يرى المفكر علي حافظ الدنيا؟ أجاب قائلا:» إنك لن تجد في الدنيا من يعيش أبدا، ولا من يدوم سرمدا، ولم يوجد بعد، ولن يوجد من لا يموت، ولم يُخْلق بَعْدُ ولن يُخْلَقَ من لا يموت» أضاف قائلا:» سبحان من له ملكوت السماوات والأرض، الحي الذي لا يموت، والسرمدي الذي لا يزول» له رؤية أيضا في الموت. اسمعوه فضلا يقول: «ومع سيْفِ الموت المسلول، في كل وقت وآن، وَسَيْلهِ الجارف في كل بلد، وزمان، ومكان، فإننا لم نتعظ، ولم نعتبر، ولم نرعو. يعتدي بعضنا على بعض، ويظلم بعضنا بعضا، ويأكل بعضنا أموال بعض، ويغش بعضنا بعضا، ونكذب لأتفه الأسباب، ونرتشي ليضر بعضنا بعضا، ونستأسد على الضعفاء، ونخترع الأسلحة المدمرة لتقتل الآمنين، نسلبهم أمنهم، وأموالـهم، وأراضيهم بشعارات زائفة، ما أنزل الله بـها من سلطان» لي تساؤل و تعليق على هذه الرؤية؟ أليس التاريخ يعيد نفسه. الآن كل الأشياء المرئية والمسموعة، تشير إلـى أن هناك فئة اجتماعية، لا زالت مستأسدة، يخرج من أفواهها هواءٌ شبيهٌ بقرعة الطبل، شعارها « أنا ومن بعدي الطوفان» لا ترى أبعد من أنوفها، ولا تقيم وزنا لأي قيم دينية، أو اجتماعية، أو إنسانية. رحم الله المفكر على حافظ، فقد صدق عندما قال:» لم نتعظ، ولم نعتبر، ولم نرعو. يعتدي بعضنا على بعض، ويظلم بعضنا بعضا، ويأكل بعضنا أموال بعض، ويغش بعضنا بعضا، ونكذب لأتفه الأسباب، ونرتشي ليضر بعضنا بعضا، ونستأسد على الضعفاء».
الرؤية الثالثة للمفكر الكبير على حافظ، رؤية إعلامية. قد لا يعلم كثير من الناس أن الرجل، أول من طالب بتوزيع الصحف على الطلاب في الخارج. قال عام 1390هـ في مقال نشر في صحيفة المدينة المنورة:» أتوجه لصاحب المعالي وزير المعارف الأستاذ حسن آل الشيخ (رحمه الله) للتفضل بتزويد طلابنا في الخارج، بالصحف السعودية، ولو لكل طالب صحيفة واحدة، وستصنع صحفنا مع الطلاب العجب العجاب، في شدهم لبلدهم، وتزويدهم بما يقويهم، في ميادين النقاش، الذي يحصل دائما مع الطلاب، إلـى جانب شحذ الوعي الإسلامي في نفوسهم».
الرؤية الرابعة للمفكر علي حافظ، رؤيته للوقف على المشروعات العامة، ودعوته رجال الأعمال، والموسرين للإسهام في هذا المجال. في مقال كتبه في صحيفة المدينة المنورة 6 جمادى الأولى من عام 1369هـ قال:» إن أفضل الأوقاف على الإطلاق، الوقف على المشروعات العامة، التي يعم خيرها الغني والفقير، والكبير والصغير، والقاصي والداني، والجندي، والمحاسب، والكاتب، والعامل» ثم تطرق إلى أوقاف وصفها بأنـها» تحجز على الأولاد، وتحرم هذا، وتغدق على ذاك، كأنما هي أوقاف أنانية، يريد بها أهلها الخير لهم ولمن يريدون، سوف يحاسبون على أموالهم يجردون، وعن الأعوان والأنصار يبعدون».
الرؤية الخامسة والأخيرة، التي أختم بها هذا اللقاء عن المفكر علي حافظ، رؤيته لجهاز حديث، يعد نقلة نوعية في عالم الاتصالات والإعلام، ولو قدر الله له أن يعيش حتى اليوم، لرأى عجبا، وربما صام رجبا. ففي عام 1392هـ (1972م) نظم قصيد بعنوان « عصر الكومبيوتر» اسمحوا لي أقرأ أبيات منها، وأترك لكم الحكم لها أو عليها:
يا صاح ذا عصر الفضاءِ وعصرُ فن الكومبيوتر
كم قد سمعنا من عجائب عن جهاز الكومبيوتر
إن شئت تحسب أو تحا سبُ فاستعن بالكومبيوتر
أو شئت حل المعضلا تِ ادفع بـها للكومبيوتر
أو شئت أية غاية اضغط بزر الكومبيوتر
ومضى على هذا النحو في حديثه عن الحاسوب (الكومبيوتر) إلى أن قال من بين ما قال:
والأمن يحفظ وارفا بعقول هذا الكومبيوتر
أخبار كل الناس خزنها بهذا الكومبيوتر
مهما تباعدت البلاد اسأل يجبك الكومبيوتر
هو صادق وهو الأمين فلا يَغُشّ الكومبيوتر
لا يعتذر لا يرتشي لا يعرف التسويف هذا الكومبيوتر
أعترف أنني لم أفِ المفكر على حافظ (رحمه الله) حقه في هذا اللقاء، وما قدمته لا يعدو أن يكون قطرة من بحر، وما كنت أتصور أن أقف يوما متحدثا عنه، أما وقد شاء المنظمون لـهذا الاحتفال، أن أكون كذلك، فحسبي أنني قدمت ما أستطيع، وعذري أن هذا جهد المقل.
* محاضرة ألقيت في المدينة المنورة بمناسبة اختيارها عاصمةً للثقافة الإسلامية
الرياض