للحكم في العربية معنيان مشهوران، أما أحدهما فالمنع، جاء في (تهذيب اللغة) «وحكَمْتُ الرَّجل وأَحْكَمْتُه وحَكَّمْتُه إذا مَنَعْتَه»، ومنه الحكَمَة، و»الحَكَمة: حَلْقة تكون على فَمِ الفرس»، وأما الآخر فالقضاء، قال الأزهريّ «والحُكم أيضًا: القضاءُ بالعدل. وقال النَّابِغَة: واحكُم كحُكْم فتاة الحيِّ إذ نظرت***إلى حَمام سِراعٍ وارِدِ الثَّمَد»
والقضاء بالعدل إنما يعتمد على الفقه والعلم، جاء في (تهذيب اللغة) «والحُكم: العِلم والفِقْه»، واستدل بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم-12]، وقد جعل الآية صاحب المنار (7: 493)»مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِقْهِ الْقَلْبِ».
ومن هنا نجد خطأ ما شاع في استعمال المحدثين إن احتكمنا إلى نظام لغتنا وتراثها؛ خلافًا لمن يرى ذلك الخطأ من تطور اللغة وانعتاقها من الوصاية، وهي نظرة والله تؤدي إلى التفرق، وتودي باستقامة أفنى الأجداد أعمارهم في الحفاظ عليها. وإن كان بعض المحدثين يرون من حقهم معاودة النظر في التراث وامتحانه فإن من الحق أن ننظر في استعمالهم وما يجري على ألسنتهم ويعتادونه حتى يرونه الصواب وما هو كذلك، ولعل من أكثر ما يستوقفني استعمالهم من الفعل حكم الدال على القضاء لا المنع قولهم (مجلة محكَّمة) فيفتحون الكاف، وهي بهذا اسم مفعول من الفعل (يُحكَّم)، ولست أرى ذلك صحيحًا؛ لأن المجلة تدفع بالبحوث إلى من يحكُم عليها، وهي بهذه الصفة محكِّمة أي اسم فاعل من الفعل (يُحكِّم)؛ ولذلك أرى الصواب (مجلّة محكِّمة) بكسر الكاف، ومن ذلك قولهم (حكَّم الأستاذ البحثَ) أي قرأ البحث ليبين رأيه فيه، والصواب (حكَم الأستاذُ على البحث) لأن المعنى القضاء بالعدل عليه لا منع البحث، وهم يقولون (محكِّم) ويقصدون به الأستاذ الذي أصدر حكمًا على البحث أي حكَم عليه، والصواب (محكَّم) بفتح الكاف؛ لأن المجلة أو إدارة النشر حكَّمته في البحوث، ومنها قولهم (تحكيم البحث) كما في هذا النص المقتبس من رسالة موجهة إلي «نرجو التكرم بموافاتنا كتابيًا أو هاتفيًا أو عن طريق الفاكس بما يفيد قبولكم لتحكيم البحث»، وهم يقصدون بتحكيم البحث الحكم عليه، والصواب الحكم على البحث، وأما التحكيم فهو تحكيم الأساتذة؛ أي جعلهم حكّامًا على البحوث، جاء في معجم المحكم لابْنُ سِيدَهْ «الحُكْمُ القَضاء، وَجَمْعُهُ أَحْكامٌ، لَا يكَسَّر عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بالأَمر يَحْكُمُ حُكْمًا وحُكومةً وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ». وجاء في لسان العرب «والحُكْمُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ يَحْكُمُ أَيْ قَضَى، وحَكَمَ لَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ». ومن الفعل (حكم) جاء مزيده (حكّم) أي جعل حكمًا، جاء في لسان العرب: «وحَكَّمُوهُ بَيْنَهُمْ: أَمروه أَن يَحكمَ. وَيُقَالُ: حَكَّمْنا فُلَانًا فِيمَا بَيْنَنَا أَي أَجَزْنا حُكْمَهُ بَيْنَنَا»، والذي ننتهي إليه أنّ المجلة محكِّمة بكسر الكاف لأنها تحكِّم الأستاذ فهو محكَّم بفتح الكاف، وعمل المجلة تحكيم وعمل الأستاذ حُكْم.
الرياض