«الصفرد يعود وحيداً».. رؤية سردية تسترشد بالحكاية
يلوح الأديب والقاص العماني محمد بن سيف الرحبي للقارئ بإضمامة سردية متناهية الرشاقة والحضور العبق الفني الذي يضع الأشياء في أماكنها، ويصف الحالة بما يقتضيه وعي السرد لكي تخرج القصة القصيرة من ربقة الحكاية إلى عوالم الفن المحتشد بالصيغ والتعابير والدلالات المفعمة بمضمون الإبداع.
وُسِمت هذه المجموعة القصصية بـ «الصفرد يعود وحيداً» وتجلت في استهلالها الأول برؤية سردية تسترشد بالحكاية كمتكئ خطابي، إلا أن الرحبي يستشعر هنا أن تكون سيرة المهاجر في القصة الأولى «الذي عاد غريباً يتذكر» وعياً مكتمل المعالم لا سيما في وصف تفاصيل من يعودون إلى أماكنهم القديمة محملين بشجن خاثر وحنين لا يجارى حتى تصبح قصتهم على لسان الراوي مشهداً مخلداً في الذائقة والوجدان.
يشغل حيز المكان في هذه القصص هامشاً رحباً يتجسّد في سرد تفاصيل الحياة اليومية على مساحة واسعة من الأرض التي يعيش عليها الشخوص، محاولاً في هذا السياق أن يدفع بالراوي إلى مكانة مناسبة كي يلتقط هذه التفاصيل على نحو قصة «الركلة» حيث يستلهم القاص الرحبي فكرة مباراة كرة القدم في فضاء البلاد قاطبة، ليشتعل المكان ولو آنياً في تفاصيل مباراة فاصلة، تتحرك فيها لغة المكان في النص على نحو رحب ومترامٍ.
فيما تدور التفاصيل الأخرى على هذا المنوال، فتارة يكون حيز المكان على مستوى جغرافية الوطن، وأخرى يصبح في مدينة تعيش أدق التفاصيل، وأخرى في حي من أحيائها وتارة تلمح المكان وقد صار نشيداً حزيناً لا سيما حينما يعود الغرباء إلى أوطانهم لتعتلج في الذات حرقة الزمن، وألم العودة الذي لم يضف شيئاً لهؤلاء الذين ظلوا ينشدون حياة أفضل في الغربة والمنافي البعيدة والقريبة.
حيز الزمان في قصص الرحبي لا يقل رحابة عن المكان الذي ينسجه لحكايات شخوصه وأبطال قصصه، فالزمان عنصر أثير يسترجع الكاتب من خلاله الكثير من المواقف الإنسانية على نحو قصة «الصفرد» التي تحمل عنوان المجموعة حينما يطل الزمن من تفاصيلها القديمة.
فثلاثة عقود من الصبر في متاهة الحياة المعاندة على أرض ريفية تتبدل وتتحول هي كفيلة بتحويل حالة السرد من واقع قصة أو حكاية ذاتية إلى نص سردي مفتوح على مصراعيه، إذ لا يحدد الكاتب هنا أي أبعاد ممكنة للنص، حتى وإن أحال المشاهد إلى مستوى بسيط من رحلة الاسترجاع والتخيُّل وتذكُّر الماضي، وهو في الأساس هامش زمني، لكنه بحاجة استرشاد بفكرة حياة الطير «الصفرد» الذي حمل هذه القصة بل المجموعة - كما أسلفنا - مبيناً في هذا السياق حالة الوجع الإنساني والألم النفسي حينما يتذكر الغرباء أنهم لا يزالون يحملون هذه الصفة حتى وإن عاشوا عقوداً من الزمن!
لغة النصوص في هذه المجموعة هادئة وتميل إلى استحكامات الحكاية العفوية.. تلك التي لا تتطلب مزيداً من النحت والرسم الكلمي، إنما يذهب الكاتب إلى طرف آخر من المعادلة اللغوية في النصوص حينما يضع نصب عيني الراوي أهمية أن ينقل الكلمات بحذافيرها المحلية وبمدلولاتها الريفية.
وقد همش بالأرقام للكثير من المدلولات اللغوية في نهاية كل صفحة، وهو هنا يسعى إلى إيجاد لغة سردية متوازنة تتفاعل مع الحكاية.. فلا تأتي من قبيل اللغة الفنية المشبعة بالنحت والصور والقياسات والرمز والدلالات التي تتطلبها في الغالب الأعم لغة السرد القصصي وفنياته المعاصرة.
بيئة القصص في مجموعة الرحبي تدور على مفاصل القرية والريف والأماكن البسيطة على حواف المدن، ليثبت لنا من خلال هذه المنقولات أنه يقف مع هذه المتواليات البيئية باعتبارها هاجساً إنسانياً يستحق المتابعة والكتابة، إذ يرى ووفق هذه الرؤية أن هؤلاء البسطاء في بيئاتهم البعيدة عن وهج المدن يمكن أن تكون مصدر ثراء للتجربة الإنسانية.. فلا غرو وهو يضع نصب عينيه إشارات المكان ممثلاً ببيئة الإنسان في «عُمان» التي لا تزال ترقد على كم هائل من القصص المعبرة وتختزن الكثير القيم المعتقة.. تلك التي تحتاج إلى مزيد من الكتابة، لتناوش هذا الجمال الإنساني وهذا البعد الوجداني الجدير بالمتابعة والتلقي.
وما ذكر عن البيئة الريفية وعوالم القرى في النصوص ينسحب حقيقة على مظهر الشخوص وما يحملونه من شهادات واضحة.. بل إن كل فكرة في النص القصصي في هذه المجموعة يحمل دلالة البيئة ومضامينها أيضاً.
** ** **
إشارة:
- الصفرد يعود غريباً (قصص قصيرة)
- محمد سيف الرحبي
- مؤسسة الانتشار العربي - بيروت - 2012م
- تقع المجموعة في نحو (98 صفحة) من القطع المتوسط