قلت في الموضوع السابق إن معرفتنا للشر والخير اكتسبناها من خلال قاعدة وجدانية أوالبناءات الذهنية التي تعتمد على ثلاثة محاور هي “التخويف والعقاب والثواب” والتي بدورها تبني الوعي وكيفياته، وهو ما أسميه “وعي التداعي” وهو الوعي المعتمد في إصدار القيمة وفق الارتباط المتزامن بالنظير.
والاستدعاء غالبا هو الذي يسهم في استجلاب الفهم التطبيقي ما بين القالب المستجد ووسيط الاستدعاء، وبذلك يُصبح الاستدعاء استدلالا في ذاته ومُؤثرِ في كيفية تمثيل المعرفة.
ولذلك لا نندهش من فكرة أن المعرفة قد تتحول إلى مُورّد للشر ومزور بقاعدة بيانات الفاعل التمييزي، كما أن الاعتقاد قد يصبح محرضا للشر أو متلاعبا بقاعدة بيانات الفاعل التمييزي.
إن كل فرد وكل جماعة تحدد ماهية الشر والخير وفق ما تؤمن به من تصور وتصديق وهما مسوغان ضروريان لبناء الذاكرة النفسية للذهن التمييزيّ، وبذلك تُصبح أفكارنا التعريفية للماهيات هي نسخ للتصور المسبق المكتسب عبر وسيط القاعدة الوجدانية، فجميع أفكارنا هي نسخ لتصوراتنا.
ولذلك تعريفاتنا المرتبطة بالشر تتسم بالخبرة الوجدانية والاستفاضة التقابلية سواء من خلال الثنائية ذات الجذر الواحد أو ثنائية التضاد، وفي ذلك استقراء موجه للالتزام بتعميم التجربة وتطبيقها وهو ما يدخل في “مثالية الاستقراء”.
ومثالية الاستقراء تقوم على أن كل “فعل يكرر ناتجه” دون التأثر باختلاف ضوابط الظروف، وهذه مصادرة لمنطقية تطور الفعل لمصلحة استراتيجية الاستدعاء ومنطق التصور والتصديق اللذين يتحكمان في تعريف الشر.
ما هو الشر؟ .
قد يقول أحدهم هو القول السيئ والعمل السيئ وبالتالي يصبح الخير هو كل قول حسن وعمل حسن، وكأن هذه الإجابة تخلط بين السيئ والشر، فهل السيئ هو معادل للشر؟
قد يعتبره البعض ليس معادلا ماديا إنما هو معادل معنوي كدرجة من درجات الدافعية التي تُحفز إلى الشر، ولكن المعادل المعنوي غالبا ما يوقعنا في فخ الوهم؛ لأنه يخلط بين ماهية الشر والدافع نحوه، كما أن الدافع لايمكن اعتباره برهانا على إثبات الطبيعة.
وهذا لا يعني إبعاد فاعل الدافعية عن حصول ممثل الماهية أو إنكار فاعليته في تشكيل علاقة التمييز، لكنه رغم وظيفته في تشكيل التمييز الوظيفي للعلاقة النوعية ليس هو الممثل للماهية.
كما أن وظيفة فاعل الدافعية ترتبط بوظيفة فاعل التمييز والذي يعتمد على استراتيجية الاستدعاء المؤسِسة لمفاتيح التعريفات ومعايير تصنيفها وتقييمها؛ والقوة التي تكون الوعي التمييزي.
أما وظيفة فاعل التمييز فهو المُقرِر الضابط لِم يمكن أن يكون شرا أو خيرا، ولذا لايمكن إغفاله في مسألة ما هو الشر؛لأنه مُساهم رئيس في البحث عن التعريف الضائع للشر.
وقد يقول آخر إن الشر هو كل قول وفعل يخالف ما يحسب ضمن منظومة الخير، وكأن هذه الإجابة ترفع الحدود بين ما يحسب على منظومة الخير مما يحسب خارجها، فليس كل ما هو خارج منظومة الخير هو بالضرورة شر.
كما أن تحديد للخير منظومة هو بدوره مخالف لمنطق تطور المفاهيم ونسبية تقييم الأثر، كما فيه إلغاء لتأثير الوجود وأزمة لكيفية تشكّل العلاقات.
فالفاعل التمييزي يتأثر “بقوة العادة”؛ففاعل التمييز يسيطر على معايير الأحكام إما بقوة القانون أو قوة العادة أو قوة الأغلبية، وقوة العادة ترفع شرطية السببية لتنفيذ القبول والاستجابة، وغالبا هذه القوة هي المؤسسة لثقافة القطيع، والعادة تستمد قوتها من قدرتها على استنساخ الأفكار، ولذلك وحسبما أعتقد أن “العادة لا تستنسخ عقيدة إنما تستنسخ تقاليدا”، فالفكرة الثابتة لنمطية خاصة هي “مُؤثِر لناتج التقليد”.
هل أقصد بالإشارة السابقة أن الشر والخير قد يصبحان جزءا من التقاليد؟.
كل ماهو ناتج عن الصنعة التاريخية وقابل للنسبية ولا يمكن تأطيره بمعايير ثابتة هو يدخل في باب “صفة التقليد”.
وبذلك فكل ما يُصنف شرا أو خيرا وفق خصائص تشكل التقليد هو قريب من درجة التقاليد أوقد يتضمنها
وهناك إجابة ثالثة لسؤال ما هو الشر وهي إجابة تعتمد على آلية التضاد فكل مقابل ضديّ لِم يُحسب خيرا هو شر، لكن هل كل مقابل ضدي للخير هو شر؟
وهذا المبدأ فيه تعميم مفرط لسلبية التضاد وهو ما لا يتفق مع المنطق التحليلي، إضافة إلى أن التضاد قد لا يملك اعتبارا تمييزيا ذات صفة توثيقية نطمئن إليه كمعيار موضوعي لا يتأثر بالقاعدة الوجدانية وفاعلية الوعي الاستدعائي.
إن أفعالنا وأقوالنا تتدرج وفق “سلّم من المفاهيم والقيم” ولو افترضنا العبارة السابقة لها محل من واقعية التوصيف، فهي مُلغّية بأن التضاد هو من يملك معايير التدرج.
والتضاد كآلية لتمييز أقوالنا وأفعالنا فيه إهدار لطاقة المفاهيم والقيم، وهذا الإهدار كما قلت سابقا يتعارض مع المنطق التحليلي.
وبذلك فنحن هنا نقف على ثلاثة تعريفات منها ما يعتمد على صفة الفعل والقول ومنها ما يعتمد على الطارئ على أصل الدلالة ومنها ما يعتمد على التضاد.
ووفق ما سبق نتبين أن تعريف الشر مرتبط بماهية الخير، وكما أن الغموض بينهما تعاقبي فالوضوح لكليهما أيضا هو تعاقبي.
وقبل ذلك كلا التعريفين غالبا ما يرتبطان بتصوراتنا ومصداقيتنا، وهما أمر يصعب معهما فحص جوهر كليهما لأنه يوصل دوما بقالب الموجود.
ولذلك أعتقد من التوهم الإدعاء أننا نعرف حقيقة جوهر الخير والشر، أو يمكن حصرهما بتعريف خالص مجرد من القالب الوجودي المكتسب بالتصديق والتصور.، فنحن ندركهما من خلال “قوالب وجودهما”؛وهذه الكيفية في التحصيل هي التي تجعل حدود المفهومين مبنيين على التنازع المستمر.
ويبنى التنازع على حدود الخير والشر من خلال مجموع الاعتقادات والتصورات التي كونت محتوى ذلك التنازع من خلال التلابس المتداخل في التقاليد والعادات والاعتقادات والأصول والهويات، مما يوسع نطاق جبرية استنساخ الشر والخير، وهذا التوسع يدخلنا بدوره في فكرة إمكانية صناعة الخير والشر.
نعم هناك شر مصنوع وهناك خير مصنوع؛وإمكانية وقوع صنعة يفتح باب الاحتيال على معايير التمييز بين الخير والشر.
وقد يسأل سائل هنا أليس تمييزنا للشر والخير وفق ما اكتسبناه من تصديق وتصور بالوراثة والعادة تتضمن صناعة للشر والخير؟
والأمر أحسبه مختلفا؛ فالتصور والتصديق المكتسب بالوراثة يتصف بالثبات والتعميم ولا يخضع لغاية سلطوية مع احتمالية وجود هدف للإقصاء.
إن قوة العادة الراغبة في المحافظة على خصوصية الفاعل التمييزي للخير والشر في حياة المجتمعات هي التي تمكن العامل التمييزي من التقييد المستديم بالنمطية.
والنمطية المستدامة للفاعل التمييزي هي التي تحميه من استغلاله لصناعة الشر والخير.
فمفهوم “الصناعة” يخالف مفهوم الاستدامة؛لأنه يرتكز على المؤقت والمتغير والخلفية والغاية، وتسييس كل منهما، فكل شر يحمل غاية فئوية هو شر مصنوع وكل خير يحمل مقصدا سلطويا هو خير مصنوع.
والشر والخير المصنوعان يتصفان بأنهما يتبعان مقصدهما، ولذلك ما يحسب اليوم هو الشر في الغد قد يُحسب خيرا، وما قد يُحسب اليوم خيرا قد يصير غدا شرا، ولسان حالهما “ليس هناك شر دائم ولا خير دائم”.
لقد أصبحت صناعة ثنائية الخير والشر اليوم حجر الزاوية في السياسات العالمية اليوم بها تستعمر دول وتدمر مجتمعات وتقسم الكرة الأرضية إلى محور الشر ومحور الخير.