صار اليوم الثامن عشر من الشهر الثاني عشر الميلادي عيدًا للعربية يتداعى أهلها ومحبوها من غير أهلها للاحتفال بها كما يحتفل بأي شيء آخر بذكر محاسنه أو التحسر على حاله ثم ينقضي اليوم باحتفاله وبقصائده وبما دبج من كلمات فيه لتنسى العربية بعد ذلك وتبقى حبيسة في مجالاتها التي طالما حبست فيها حتى ابتعدت أو أبعدت عن حياة الناس اليومية التي تعطي للغة المستعملة فيها سمة الحياة والحيوية، وانفتح المجال واسعًا أمام العاميات المختلفة واللغات الأعجمية التي فرضت نفسها بحجة أنها وسيلة التقنية وحاملة لواء التقدم التقني الحديث ولسان العلوم التطبيقية وإن تكن العاميات أخذت مساربها إلى عصب العمل الإعلامي فصارت واجهته الظاهرة في كثير من بوادره بلا تردد ولا استحياء لتسنم مراكزها وإداراتها كثير من الذين لا حظ لهم من إتقان العربية وعلومها، إن تكن كذلك فاللغات الأعجمية أمسكت بعصب العمل في البلاد لأن العمل صار تابعًا بشكل أو بآخر لأصول أعجمية ومرتبط بحركة عالمية يجد منفذوها والمديرون شؤونها أن من الأهون عليهم ومن الأسرع لتيسير عملهم أن تكون اللغة الأعجمية هي لغة العمل فكأنهم بذلك لم يزايلوا موطن الأصول المنتجة لما يتطلبه العمل، وبهذا قبعت العربية في محرابها القديم لغة دين وأدب ولكنها ليست لغة حياة وتعليم تقني وتطبيقي وعمل، ومن أجل هذا كان من حقها على أبنائها أن يتخذوا لأنفسهم سياسة لغوية تغير من هذا الواقع الذي يلوي بهويتهم ويعصف بتفردهم ويلحقهم في حاشية غيرهم، وتسعى هذه السياسة إن كانت حكيمة في ما تسعى إليه إلى أن تؤهل المجتمع تأهيلا نفسيًّا يعود بهم إلى احترام الذات والغيرة على مقومات هويتهم ويعيد إليهم الوعي بأهمية لغتهم وقدرتها على مواكبة العصر.
إن بذل الجهد للنهوض بآلياتها هو لجعلها في مواجهة الحاجات المجتمعية المتطلبة من تعليم وتعلم وخدمات عمل، ولعل توطين التقنية من أولويات هذه السياسة، وكذلك الترجمة المتقنة المستوعبة والسعي لمعجم تفاعلي يتخذ من وسائل العصر الحديثة وعاءه مع التفاتة جادة إلى التعليم الحقّ لمهارات اللغة تعليمًا معتمدًا على التدريب المكثف التراكمي المتجاوز للتلقين الكمي للمعرفة الموغل في فهم تفاصيلها وفهم أصولها وإعمال الفكر في التحليل، ولابد لنجاح التعليم من دقة القياس وصدقه وثباته لتكون الثمار جنية وفاعلة. ولن تكون العربية لغة حية طبيعية ما لم تكن لغة البيت والشارع والمصنع ودور الاستشفاء وكل المصالح العامة والخاصة، ولن تكون كذلك إلا باسترداد تلك المجالات من قبضة العاميات وليس هذا الأمر بالسهل ولكنه ليس بالممتنع مع العمل الصادق والسياسة الحكيمة، ولعل تضييق الهوة بين مستويي العربية فصيحها وعاميها هو السبيل إلى ذلك؛ لأن الحرب على العامية لن يجدي نفعًا بل محاولة استيعاب العامية لتكون في كنف الفصحى ومحاولة نزول الفصيحة من عليائها لتصافح مفاصل الحياة اليومية بصحة وسهولة ويسر، وعلى هذه السياسة أن تؤهل المجتمع تأهيلا نفسيًّا يزيل ما بينه وبين لغته من وحشة وتأهيلا اجتماعيًا ينهي ما بينهما من تدابر، ويشجع الناس على تغلب إحساسهم الخجل من استعمال الفصيحة في حياتهم اليومية، ويكون ذلك باستعمال لغة قريبة في ألفاظها وتراكيبها من العامية؛ إذ لسنا نريد من استعمال الفصيحة العودة بلغتنا إلى لغة الأجداد في العصور الأولى بل أن نتكلم بلغة جامعة حديثة يفهمها العالم العربي كله ويفهمها متقنو العربية في أصقاع الأرض المختلفة التي يصدمون حين يتصلون بأهل العربية بقوم لا يتحدثونها فصيحة بل يرتضخون لهجات مختلفة تحول دون تفاهمهم معهم، إن علينا العرب أن نحفل بالعربية على النحو الذي حاولت وصف بعض جوانبه ولا نكتفي باحتفال سنوي لا يعود عليها بخير يذكر.