إلى حب سلف ما بعد المحيط الأطلسي
في حرب بينه وبين ماض سحيق كي يتنحى عن عرشه، ويدع له الحاضر خاويا من كل بريق الماس، فقد بصره وقدرته على السمع إلا انه واصل الذهاب كل يوم لتلاميذه بدشداشة بيضاء عليها بقع مضيئة من طين الغراف الشهير عند فناني الخزف والفخار..
استغرق التماهي مع محيطه الصامت والوجوه التي لا يراها أو يسمع أصوات أصحابها ثلاثة وثلاثين عاما.. أمسك بتلاليب العدم كي يمضي نحو اليوم القادم.. بساق عرجاء.. ثم أدرك أن عليه أن يستخدم كرسي المقعدين..
أنامله الرقيقة تتحسس الحروف.. تضرب على الحاسوب بمهارة بلغة الراب الأمريكية وبلهجة الغراف العسيرة الفهم باستثناء قاطنيها..
تلك التي برقت في ظلمائه، كغيرها من الناس لا وجه ولا صوت لها..لهجتها فحسب هي من أغرته ببدء حوار طويل عبر أشباح شبكة العنكبوت وخدماتهم الشيطانية الرائعة..
قهقه بصوت عال مع كل كلمة قالتها..وإن لم تطرق سمعه أو تنعكس على قزحية عينيه..إنما شمَّ أريجها..ولمس بيديه نعومتها السندسية..
وبفرشاة مسهدة رسم وجهها الغرافي السحنة.. وعنقها السومري الشامخ... وأنفق جهدا كبيرا في صناعة منحنياتها الأنثوية..
لأجل وجهها المستدير وعينيها الواسعتين.. افتتح معرضاً للوحات غرافية في عهده الأخير قبل غيبوبة لا نهاية لها..
لم يحضر أحد..
شعر بزحام المتفرجين وهو يصطدم بأشباحهم هنا وهناك..وتلمس صدى التصفيق وأنواركاميرات التصوير الوامضة بخياله المحلق نحوها..
عقب انتهاء كل ما يتعلق بالاحتفاء بها انتابته غيبوبة الألفية الثالثة..قد شهد منها اثني عشر عاما فحسب..
ما بعد الغراف
حين أدركت وجوده ببصيرتها استعادت بصرها الذي أذهبته غازات حلبجة.. نمت ساقاها كجذعي نخلتين مهيبتين بعد أن بترتا في مفخخة بغداد.. وسمعها الذي رحل مع مويجات الغراف وهي تنتزع من على ضفافه عنوة حط على صيواني أذنيها كما تحط الطيور المهاجرة على وجه الأهوار الصقيل..
أحمرت السماء بحياء اكتشافها لغرامها السري.. فرش الربيع أمامها بساطه الأخضر وزينه بزهور نيسان وأكرمه بندى آذار النقي..
صوته أتى هادئا دوما عبر نور القمر.. وعيناه أطلتا من كل نافذة بأجنحة بيضاء..
(مثل روجات المشرح ترف.. ضحكاتك وأحلى.. وألذ من الهوى العذري وأعز من العمر وأغلى)..
تلك أغنيتها الفضلى.. وشط البدعة أجمل ذكرى حدثها عنها..
بدأ يعرف ملامحها جيدا ويرسمها مرارا دون توقف..تمنت عليه أن يرسل عبر الأشباح لوحة ما..
- انتظري المعرض.. وحشد الزوار.. وأنوار آلات التصوير وهي تومض كشهب في ليلة عمياء..
بدا الانتظاركسكة قطار لا تنتهي تسايره أفعوانية تمضي بها وحيدة وبجنون..
(راح العمر وانكضه ريشة على جاري الماي.. يأخذها مد وجزر ما بين رايح جاي.. لا وجه ليلة بطيف.. ولا ضاك فرحة كيف.. والبيه بيه).
عشرات الأيام للدموع.. ويوم لقبلة تطبعها على خد الشفق علها تبلغ عينيه فيراها.. شتلت دموعها حزنا وبهجة عند شاشة الحاسوب..
علقت لوحاته بين أرض وسماء.. أبصرت وقت الغروب ساقيها المبتورين في لوحة.. صقيلين كلوح ذهب على زبد الأطلسي.. فخذيها البلوريين ذبيحين في لوحة من دم يحملها الغراف كجثمان شهيد لم يعثر عليه أهله بعد.. نهديها كتفاحتين دون شجرة دون ربيع.. بطنها لا يتوسده سوى الظلام والوحدة.. وجهها طائر في قفر سماء عارية عن غيومها..
- أتفعل بي فعل مفخخة يا هذا؟
ماذا صنعت بي؟
لملمت أشلائي لأحتضن السفائن وأرحل صوبك.. الآن كيف لي أن أجمعها في جسد واحد..؟؟
- قل لي.. كيف لي؟؟
- من تنادين أيتها المرأة؟؟.. لا أحد في الجوار سواي، وأنا لم أرك من قبل..
التفتت نحوه
- حقا من أنت أيها الشيخ البصير المقعد؟؟
مضى الشيخ بكرسيه.. كأنه لم يصغ إليها..أولم يسمع شيئاً..