) يتحدّث إمبرتو إيكو في مقالةٍ له بعنوان «الفاشية الدائمة» عن حالة الانقسامِ التي آلتْ إليها إيطاليا في الحربِ العالميةِ الثانية، فقد كانتْ هناك جماعاتٌ مؤيدةٌ للفاشية وأخرى مناهضةٌ لها - شأنها في ذلك شأن كل دولةٍ عانتْ من الأنظمةِ الشموليةِ فثارتْ عليها - وحتى بعد التحرّر من حكمِ موسوليني استمرتْ حالةُ الانقسامِ لكنها هذه المرةُ بين من يرى ضرورة طيِّ الماضي بكل سواده وفتح صفحةٍ جديدةٍ أمام المصالحةِ الوطنيةِ، ومن يرى وجوبَ محاسبةِ المسؤولين، وهنا يتساءل إيكو عن المعنى الحقيقي لهذه المصالحةِ التي يتحدثون عنها، ويؤمن بأنه حين نسامح لا يعني أننا ننسى، لأن ذلك يشجّع المذنبين على العودة وارتكابِ جرائمهم من جديدٍ، «فنحن هنا لنتذكّر ما حدث ولنقول جديًا أنّ عليهم ألا يفعلوا ذلك ثانيةً»!
) يبدو هذا موقفًا شبيهًا بموقفِ أمل دنقل في قصيدته «لا تصالح» التي اتّكأ فيها على وصيةِ كليب لأخيه الزير بعد مقتله، برغم أنّ دنقل كان قد استعارها للتعبير عن موقفهِ الغاضب ممّا يدار خلف الكواليس لعقد الاتفاقياتِ مع إسرائيل، إلا أن طرفيْ المعادلة في قصّة كليب الحقيقيةِ وفي ما أورده إيكو أعلاه هم من» الإخوة الأعداء»، فالزير في النهاية كان يقاتل أبناءَ عمومته للثأر لدمِ أخيه المغدورِ، ولم يكنْ هناك عدوٌ خارجيٌ مثلما هو الحالُ في الصلحِ المعقودِ بين بعضِ الأنظمة العربية وإسرائيل.
) على أنّ ذلك لا يخرجُ عن كونِ المحورِ الأساسي في رأي إيكو ودنقل هو حساب المسؤولين، القصاصُ العادلُ دون أن يعني ذلك بالضرورةِ الثأرَ بمعناه الجاهلي ومعناه لدى الزير الذي أدام الحربَ على قومه أربعين عامًا ثم انتهت دون ديّةٍ لقتلى ودون منتصرٍ فسُمّيت البتراء كما تقول المصادر.
) «كلُّ شيء ٍتحطَّم في نزوةٍ فاجرةْ والذي اغتالني ليس ربًّا
ليقتلني بمشيئتهْ، ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينتهْ،
ليس أمهرمني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرةْ
لاتصالحْ،
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرقَ الأرضَ من بين عينيَّ
والصمتُ يطلقُ ضحكته الساخرةْ!»
لا يبدو كليبُ / دنقل هنا متعنتًا في موقفِه، ولا هو يطلب المستحيلَ حين يرفضُ الصلحَ ومصافحةَ اليد التي اغتالته غدرًا، اليدَ التي «لن تتساوى بيدٍ كان سيفها لك»، يشفع له مطلبه العادل بالقصاص الذي ليس بأي حالٍ من الأحوال شكلًا من أشكال الثأر وإن بدا صارمًا حادًا! إن ما تحتاجه الأوطان اليوم هو التفريق بين هذين المفهومين اللذين تفصل بينهما شعرةٌ لعلها أرقّ من شعرةِ معاوية، تقتص من مغتالي فرحتها لتبني مستقبلها بعد أن تدفنَ الإرثَ البغيضَ لكل السوادِ السابق، حينها يكون «الصلحُ « مع الذات خيرًا وخيرًا فقط!