(1)
إلى الهاويّة أيّها العربي! بمحض إرادتكَ، لا يقودُكَ أحدٌ سواكَ باتّجاه هذا المصير؛ أنتَ الحادي، أنت الركبُ والعيسُ.
(2)
تذكّرتُ في (اليوم العالمي للغة العربيّة) تلك الكتابات والمحاضرات التي تتحدّث عن مخاطر زوال اللغة العربيّة لأسباب عدّة، على اختلاف مراجع وغايات مصدّر تلك الأسباب، فمنها: (جدليّة منطقيّات النحو، انتشار المحكيّات، طريقة التعليم، عصرنة المعاجم، غياب المعجم التاريخي، تأثير اللغات الأجنبية)، وبغضّ النظر عن رأينا في هذه المسائل، فإنّها تبقى مطروحة للتداول، لكنّها لا تكون مسؤولة مصيرياً عن بقاء اللغة أو زوالها: (على دلالة عدم استخدامها)؛ ذلك أنّ زوال اللغة العربيّة في المدى المنظور يكاد يكون أمراً معدوماً، أكثر من أي وقت مضى، إذ تجاوز عدد الناطقين بها أربعمائة مليون نسمة؛ وهي إحدى اللغات المعتمدة في منظمة الأمم المتحدّة، إضافة إلى احتفاء اليونيسكو منذ 2012 باعتماد الثامن عشر من كانون الأوّل يوماً عالميّة للغة العربيّة.
فإذا قارنا هذه الإنجازات بحال اللغة العربيّة في العهد العثمانيّ يتّضح حجم التقدّم والتطوّر الذي لحق باللغة؛
وما أريد قوله: إنّ الخوف على زوال اللغة مرتبطٌ بفوبيا الزوال الوجودي ذاته لصاحب اللغة أو زواله الحضاري، فقوّة اللغة وضعفها ليست مرهونة بنتائج الجدل الذاتي للغة وإشكالاتها، وهي المسائل التي نشأت وخرجت من اللغة لاحقاً، كما يصعب القطع والبرهنة على أنّ الفصحى كانت منطوق عموم قبائل الجزيرة، بل تؤكّد المراجع التاريخيّة على وجود لغات منطوقة محكية غير المقروءة، كما أنّ واقعيّة رسمنة اللغة حُسمت لمصلحة لغة المتن القرآني - الكتابي بعد انتصار الدعوة الإسلاميّة، الذي تضمّن ألفاظ أجنبيّة عديدة، غير اللسان الذي نزل فيه، تأكيداً على قيمة التعريب بإبقاء اللفظ على ما هو عليه في اللغة الأجنبية، إذا كان لمنتجات ومصنوعات لم تعرفها قبائل الجزيرة.
إذن: كانت اللغة العربيّة سيّدة على الدنيا ولم تتأثّر سلباً بوجود المحكيّات والأجنبيّات بل حظيت بتأثير إيجابي، والمسائل المطروحة اليوم كانت جزءاً أصيلاً من خلافاتهم الجدليّة؛ أين المسألة إذاً؟ المسألة أنّ حياة أيّة لغة من حياة صاحبها، وهذا ما فات الذين يظنّون أن مخاطر زوال اللغة العربية كامنة أو طبيعة فيها، على الرغم من انتقادهم القيّم لغياب المعجم التراكميّ لتغييرات دلالات ألفاظها، وعلى الرغم من ملاحظاتهم على مسائل نحوية عديدة: (نائب الفاعل، الفعل اللازم والمتعدّي، ضبابيّة الزمن في الفعل الماضي، ماهيّة الجملة المفيدة عند المبتدأ والخبر وغيرها العديد)، التي نتجت معظمها تحت تأثير رغبة غير الناطقين بها وإصرارهم التقعيد عبر إعطاء الأولويّة للحركة على الدلالة، على عظمة الإنجاز الذي خلّفوه للناطقين بها، وإهمال أهلها.
(3)
هل الإنسان العربي الحيّ (حيّاً) على دلالة أنّه ينتمي للحياة وحبّ الحياة وإنتاج الحياة والانتصار للحياة، وأنّه لا ينتمي للعيش في التيه والوهم والانتصار للموت، انّه ينتمي للواقع ولا ينتمي للأشباح، انّه ينتمي لوجوده ولا ينتمي للغياب؟
(4)
كلّ هذه النيران المشتعلة في الشرق الأوسط، ولم يأتِ النور.
ما أشدّكِ أيّتها العتمة في هذا الغمر العربي الضليل؛
وحدها النارُ سيّدة، أيّهذا الاختلاف الجليل: بين نارٍ ونور.
(5)
ما زالت العبارة نفسها حيّة تسعى:
يقول النظام السوري: بقاء الأسد أو تدمّر سوريّة.
تقول المعارضة: رحيل الأسد أو تدمّر سوريّة.
هدفان متعارضان ونتيجة واحدة: (دُمّرت سوريّة).
(6)
ربما يكون تفكيك مجموعة الحجج التي سبّبت الحرب الأهلية في سورية جزءاً مساعداً في طاولات التفاوض، لكنّ الإصرار عليها يفضي إلى تعطيل أي حلّ لوقف إطلاق النار.
كما انّ مجرّد انعقاد (جنيف الثاني) هو تأكيد على انتهاء حبر (جنيف الأوّل)، والظنّ بأنهما مرتبطان تراتبيّا ومرحليّا لا يأخذ بحسبانه المتغيّرات السياسيّة بين الروس والأمريكان والوقائع على الأرض: (هل تشتّت المعارضة السوريّة وهزالتها قادرة على إدارة مرحلة انتقاليّة؟ وإلى أي مدى أصبحت سورية مركزاً للإرهاب يهدّد الشرق الأوسط برمّته؟ وهل بقيَ من النظام السوريّ ما يهدّد المنطقة إن تمّ ترميمه ظاهريّاً لإطالة أمد بقائه؟)؛ هل من أوراق لدى لدبلوماسيّات الأطراف المتنازعة مغايرة قادرة على تحقيق وقف النزاع المسلّح، وإنهاء حالة الحرب الباردة في سورية؟! وهل من الممكن أن يُعاد سيناريو اليمن: بحيث يكون التفاوض على عدم تجديد الأسد لفترة رئاسيّة جديدة مشروطة بتولّي واستمرار قيادة حزب البعث للمرحلة الانتقاليّة؟؟
(7)
من أجل الإطاحة بالرئيس السوري زُهقت كلّ هذه النفوس، وشرّد كلّ هؤلاء السوريين، ولم تعد سوريّة بلداً للحياة، بل بلداً للموتى والخراب؛
) ما أصعبها على الفهم والتصديق، هذه المعادلة الدمو يّة!!
أن يرى المستبدّ نفسه معادلاً للدولة والسكّان جميعاً، فتلك رؤيةٌ ليست دخيلة على نفسيّة المستبدّ؛ لكن الجديد في المسألة السوريّة: أنّ الذين يقفون بوجه هذا المستبدّ، يُعادلونه بسورية العظيمة وسكّانها وآثارها وثقافتها وأرزاقها وحياتها؛ فماذا يعني تدمير سوريّة وتشريد أهلها من أجل الإطاحة به! هكذا لا تستطيع الاطمئنان أنّ سقوط المستبدّ أفضل حالاً من بقائه!
(8)
اللاجئون الفلسطينيّون، المهجّرون اللبنانيّون، الجوعى الصوماليّون، اللاجئون السودانيون، اللاجئون والمنفيون العراقيّون، الفارّون واللاجئون الليبيون، المقاتلون السعوديون، النازحون واللاجئون والهاربون والضائعون والأحياء المحاصرون والأحياء المرعوبون السوريّون؛ ثمَّ مَنْ، ثُمَّ مَنْ؟
) ما أفقرك أيها العربي،، يا سيّد هذا الزيت الأمر والمأمور.
(9)
ليست اللغة باقة ورد، لا..، وليست بندقيّة: اللغةُ حيّةٌ بما تختاره أنتَ ليمثّلكَ، فيحيا فيها معجمٌ ويتوارى آخر؛ إنْ أنتَ مِلْتَ إلى العنف مالتْ إليه، وإنْ أنتَ تجنح للسلم جنحتْ له؛ فانظر في اللغة الجارية على لسان العربي يومياً وواقعيّاً؛ هل ترى فيها الحياة؟
ما أقساه من معجم حيٍّ لا يطيق الحياة: (ميليشياتٌ، حواجزٌ، ملثّمون، خوازيقٌ، تمثيلٌ بجثث، نبشٌ، اغتيالٌ، سيارة مفخّخة، حزام ناسفٌ، انتحاريُّ، قذيفة، عبوة، لاجئٌ، نازحٌ، هاربٌ، منفيٌ، معتقلٌ، كافرٌ، خائنٌ، عميلٌ، بلطجيٌّ، شبّيحٌ، مرتزقةٌ، إرهابيٌّ، متآمرٌ، فاسدٌ، فاسقٌ، ضحيّة، قاتلٌ، تطهيرٌ، تصفيّة، خطف، فدية، ..) كيف تنتمي إلى هكذا معجمٍ يتوارى فيه الجَمالُ والحياةُ! كيف تنتمي إلى معجمٍ يبشّر بالموت، ولمفرداته على الأرض سطوة وحظوة أشدّ تمكّناً من أي مفردات أخرى في المعجم الأم!
هكذا لا تموتُ اللغة، بل يموت ما فيها من جَمال؛ هكذا لا تكون العربيّة اليوم لغة حياة وسلام، بَلْ لغة حربٍ وموت!
(10)
نحتفي باللغة العربيّة، حسناً، مَنْ يقدر أن يحتفي بكَ أيّها العربي الضليل.
ماذا يبقى من اللغة إن لم تكن خادمة للإنسان، وسعادة الإنسان، وأيّ سعادة من لغة تبدأ بقتل الأخ، ولا تنتهي بقتل النفس.
(11)
لم يعد (الأسد الابن) يملك قدرة على إعادة وحدة سورية وأمنها، ولا تملك المعارضة - المشتّتة في فنادق أوروبا، ولا الجماعات المسلّحة والمقسّمة عقائديّاً - القدرة على إقامة دولة على جزء من تراب سوريّة المستباح؛ فهل تأخذ الأطراف المتورّطة في النزاع على عاتقها هذا التوازن الذي من شأن استمراره أن يبيد الشعب السوريّ كلّه، وهل من حلول دبلوماسيّة تعيد الحياة إلى تلك الأرض - الأم: (التي تستحق الحياة).
لعلّ جميع الأطراف المتنازعة في سوريّة وعلى سوريّة بطريقة أو بأخرى حضرت مؤتمر جنيف الثاني، وحدها سوريّة - الأم كانت غائبة...
إنّها تحتضر هناك فوق تلك الأرض الخضراء أم المتوسط العظيم.
(12)
ضربَ الواقعُ العربيُّ الأعمى معجمَهُ، وبدّلَ في دلالات ألفاظه الحيّة ذات النفع والإحياء والحبّ؛ بدّلَ دلالة (القاعدة) من استرشاد وطريق قويم وتثبيت وأصل، إلى عنف وتطرّف وإرهاب، بدّل دلالة (الربيع) من خصوبة وبعث وجمال إلى خراب وفوضى وفتنٍ وهلاك؛ ويالله.. يالله.. حتّى (رابعة العدويّة) العاشقة - أمّ القلوب، لم تسلم من هذا الواقع، فانتزعوا الحب والإيمان والزهد والسلام من دلالة اسمها ورمزيّته، وحمّلوه رمزيّة الظلم والدم وقتل الأشقّاء!
ليس الخوف على اللغة، إنّما على الإنسان العربي: كيف يَسْلَم حيّاً بينما معجمه الانتقائيّ على أرض الواقع يسوقه للموت.