لن يترك إعلان المرأة عن تصدّيها للكتابة، بصمَته، إلاّ إذا كتبت شيئاً مختلفاً، ولن تكون كتابتها مختلفة، طبعاً، إلاّ إذا كانت مهاراتها مختلفة، ولا نقصد مهاراتها اللغويّة فحسب، بل نقصد مهاراتها الفكريّة التي تحكم على أصالة تجربتها، والتي تنبني عليها اللغة المختلفة.
لا نغالي إذا ما قلنا إنّ التفكير عمليّة جندريّة، وإنّ دماغ المرأة، كما تشير الأبحاث، مختلف عن دماغ الرجل، ذلك أنّ جسر الألياف العصبيّة الذي يصل بين نصفي الدماغ هو أثخن عند المرأة وأمتن، وشبكات الاتصال في دماغها أكثر، لذا فهي أكثر تأثّراً بالتجارب، وأكثر امتلاكاً لقدرة حفظها ونقلها.
كما أنّ الجهاز المسؤول عن العواطف والغرائز عند الإنسان، والذي يسمّى (الجهاز الحافي)، هو أكبر عند المرأة منه عند الرجل، لذلك فهي أكثر استجابة للتغيّرات العاطفيّة، اللفظيّة، والحسيّة، والانفعاليّة، وأدقّ تعبيراً عن عواطفها، وأكثر قدرة على الارتباط بالآخرين، ورعايتهم.
إنّ هذه الخصائص التي تختصّ بها المرأة، تمنحها فضاء ثالثاً، عداً عن فضائيّ التفكير والإبداع.. إنّه فضاء الحدس، الذي ينشبك من العلاقة بين الفيزيقيّ والميتافيزيقيّ، ويضمّ أطياف الروحانيّات وفيها التقمّص، والتناسخ. في هذا الإطار الحدسيّ، والروحانيّ، والتقمّصيّ، تدور أحداث رواية «ثلج القاهرة» للروائيّة (لنا عبدالرحمن)، والصادرة عام 2013 في آفاق للنشر والتوزيع، في القاهرة.
تعيش بشرى بطلة النصّ، والتي ولدت لزواج مختلط بين دمشقيّ وقاهريّة، بذاكرة أخرى، وروح أخرى، ويسكنها زمان آخر يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، مثلما تعيش الأميرة نورجهان حكمت، المصريّة، والتي تزوّجت بأمير تركي، بجسد بشرى. وتنتقل كاميرا الروائيّة بين مكانين، الفاصل بينهما شارعان، أي بين بيت بشرى، وقصر الأميرة، في المنيل، لكنّ الفاصل الزمنيّ بينهما قرنان، تتمكّن خلالهما روح نورجهان من أن تعبر، وتسكن جسد بشرى.
نتعرّف مع السرد إلى تاريخ الأسرة التي عاشت بين دمشق والقاهرة، ونتعرّف إلى الأب الشاميّ الذي تزوّج بفنانة، فقُتل حلمُ الفنّ بهذا الزواج، وبعد وفاته، تسحب الزوجة ابنتها الوحيدة بشرى، وتهرب بها إلى القاهرة، ليكون في انتظارهما حبيبها القديم، فيساعدهما، إلى أن تكبر البنت، وتموت الأمّ.
تعيش نورجهان في قصرها، وتعاني من المرض، ولا تجد عزاء لها سوى الكتابة، فتكتب إشاراتها، أو مذكّراتها، وتنتهي حياتها بأن يطعنها أحد أقرباء حارس قصرها، ليسرق مجوهراتها، وتبقى روحها البرئية المزهقة قلقة، فتحلّ في جسد بشرى، التي تمتلك مكان الطعنة وحمة تخزها، كلّما استيقظت روح نورجهان في جسدها.
تريد نورجهان أن تنتقم من قاتلها، وفاقاً لفكرة التقمّص، التي تقول إنّ روحاً تحلّ في جسد ما، لأنّ غايتها في الحياة الأولى لم تتحقّق. إنّ ذاكرة المعالم مهارة نسويّة أيضاً، لذلك تصنع بشرى خريطتها الخاصّة لفكّ رموز الروح التي تلبّست جسدها، وترسمها بين دمشق وإسطنبول والقاهرة، وتنكشف جريمة القتل بحسّ بوليسيّ حدسيّ، تخلق نساء (ثلج القاهرة) بوساطته مدنهنّ، وتاريخهنّ.
إنّ عالم النساء هذا لا يكتمل بلا آخر، ينشدن معه التشارك والخلاص أيضاً، ومثلما تناسلت تجارب النساء عبر مهارات الحدس، والإلهام، والفنّ، سنجد أنّ الرجال الثلاثة يشكّلون وجوهاً مختلفة لجوهر واحد، إنّهم المخلّصون: يوسف مخلّص نورجهان، ونجيب القاضي مخلّص الأمّ، وصافي مخلّص بشرى.
تقول بشرى عن نجيب القاضي الذي أحبّ أمّها: «تسيل دمعتان من عينيه، فيبدو مثل طفل صغير تائه. غمرها تعاطف كبير نحوه، كما لو أنّ حزنه على رحيل أمّها فاق حزنها هي، لأنّها لم تكن تصدّق أنّ هذا النوع من مشاعر الحبّ موجود في الحقيقة». ص61
وتقول نورجهان عن يوسف، الذي يحول العرف دون التوحّد معه: «لم افترقت عن يوسف؟ لم تركته يسافر؟.. في البداية لم نكن منشغلين بصواب هذا الحبّ، أو بشكل نهايته.. لم نهتمّ بالأمر إلاّ بعد أن طالت الألسن زياراته لي، وصرت مطالبة بإيجاد مبرّر لعلاقتنا.. ألمس الصليب المنقوش على يده، وأعرف أنّي مصلوبة في وحدتي وضعفي عن اتخاذ قرار.» ص183.
وتقول بشرى عن صافي: «إنّه التوق للتوحّد مع صافي، لكنّ هذا التوق لم يتخذ الشكل المألوف في العلاقة الجسديّة بين رجل وامرأة، بل كان يشبه حالة انجذاب النهر إلى مصبّه، والنور إلى منبعه. وضمن محدوديّة الجسد سيكون ثمّة قصور عن التوحّد التام، لأنّ الصلة أعمق بكثير من لحظات ذروة وهبوط، وأبعد أيضاً من فكرة الحبّ، وإيجاد هويّة مشتركة». ص153.
يبقى الرجال الآخرون في النصّ هامشيّين، فهم يعبرون الجسد والروح من غير أن يتركوا علامات. لكنّ كلّ واحدة من النساء تفقد مخلّصها بشكل أو بآخر، وتبقى وحيدة.
تتناسل التجارب والمهارات، ومعها تتناسل الحكاية، فنتعرّف في «ثلج القاهرة» إلى حكايات ناقصة لنساء ثلاث، كل منهن تكمّل حكاية الأخرى، وتنتقم لها، وتورثها مهاراتها في الفنّ والكتابة، أي في الثقافة، مثلما تورثها قلق الرغبة الناقصة، والقضيّة التي لم تكتمل، والتي تبحث عن جسد جديد لتحلّ فيه.. إنّ الوجود الأنثروبولوجيّ للمرأة يسير في خطّ موازٍ لوجودها ثقافيّ، لذا فإنّ الثقافة فضاء المرأة الأصيل.