تمتد علاقتي بالجوف من حديث أبي عنها، فأرى في عينيه العسليتين ملامح سكاكا والقريات وعرعر وطريف، وتستمر علاقتي بها وأنا اصغي إلى حكايات جارتنا التي عاشت طفولتها وصباها هناك، وكانت تحدثني عنها كثيرا بل كانت تغني تلك الحكايات، وتأتي الجوف لتكون محطتي الأولى قبل سنوات وأنا اعتلي المنبر حاملة صوت كلماتي. تلك الأمسية التي لازالت تتوهج في ذاكرتي، وكأن الجوف تريد أن تسر لي سراً. عدت من امسيتي تلك وأنا أحمل هذا السر وهو أن الجوف أرض ملكات، أعلم أنها أرض آثار وفنون ونقوش، هزني ذلك، شعرت بالحزن لأنه لم يمر ذلك في أثناء دراستي لتاريخنا، وبدأت أتحدث عن ذلك لصديقاتي المثقفات، وكنت أرى العيون تملأها نظرات الاستغراب والدهشة أيضا.
وتاتي رحلتي الثانية للجوف التي أحب، وأريد أن ابقى متلذذة بهذا الحب، هذه المرة إدارة امسية لشاعرتين احداهما مشاغبة كتبت قصيدة النثر، وانطلقت بها الى العالم، هاتفتني ذات يوم قائلة:
هلا تركية، أنا هدى الدغفق، وش اخبارك عندي تحقيق صحفي ابغاك تشاركين فيه كانت تتكلم بسرعة شممت حس إعلامي عال، وشعرت بتلقائية جعلتني أقول:
ابشري خلاص، وأنا اردد سانجز ما طلبت هدى.
أما الشاعرة الأخرى فهي الشاعرة ملاك الخالدي ابنة الجوف شاعرة القصيدة العمودية، والقصيدة العمودية منبرية، و هنا شعرت بقلق، لأنني أريد أن تستمع الحاضرات بالأمسية، وأن تتوهج قصيدة النثر التي أحب، والتي رأيتها كثيرا تموت على أفواه شعرائها في معظم الاحتفالات الشعرية.
قرات لهدى الدغفق بعض قصائدها، وشعرت بروح شاسعة تمر بين حروفها، واحساسا أشعر به عندما أقرا قصائد من الشعر الأمريكي. كنت اتابع مشاركاتها خارجيا وأسعد بها كثيرا , وأردد في أعماقي انطلقي يا هدى الدغفق .
وأتى مساء السبت 18 يناير وعاد لي قلقي بتوهج قصيدة النثر على المنبر، تذكرت أكثر من شاعر متميز حضرت لهم هنا في نادي المنطقة الشرقية واخفقوا على المنبر وانطفأت قصائدهم، رغم عمقها الإنساني، وتألق شعراء القصيدة العمودية رغم بساطة أفكارهم، وأخذت عهداًعلى نفسي أن لا احضر امسية شعرية لشعراء قصيدة النثر، ترى كيف ستكون هدى الدغفق؟، ولكن هدى أول مثقفة تشق (البرقع) وتقول أنا هنا، بل نحن هنا!!!.
كان المكان رائعا، انه مركز الملك عبدالله الثقافي، (الملك عبدالله) رجل الفكر وداعم المرأة السعودية، ترى كيف تتكون الأشياء الجميلة ؟، وكيف تتعالق ؟، وكيف يربطها القدر بخيوط حياة؟.
على بوابة المسرح الداخلية استقبلتني الشاعرة والكاتبة ملاك الخالدي بابتسامتها الرقيقة، والتقيت هدى لأول مرة، كان لقاء الوجوه والأرواح، عبرت تلقائيتها بيننا، تحدثنا عن الأمسية، وجولاتها، عندما رأيت هدى بدا يتلاشي عني شعور انطفاء القصيدة على المنبر كثيرا.
وبدأت الأمسية قائلة هو الشعر روح الحياة، لا أدري لماذا لم أقل الشعر هو الحياة!، ولماذا لم استشهد بقول كوهين «أن الشعر دليل الحياة «!، ربما لانني اؤمن بأن الكتابة روح.
بعد ذلك رأيت الشاعرة ظاهر الشرارية، تتسلل من ذاكرتي وتقف أمام الجمهو وهي تردد بصوت ثوري:
ياعبيد راعي الجوف راعي مكدة لو حارب البدوان ماتت سوانيه
اذن هو مساء شاعرات قلبن أوراق التاريخ، ورتبن أوراق فكر، وناضلن بكلماتهن لأجل حياة الكون .
وبدأت هدى الدغفق ، لم تقرأ هدى قصيدة نثر، لا، هدى الدغفق كانت تحلق عاليا عبر الكلمات، مرت بفلسفتها الخاصة عن ذاتها.
وصعدت إلى سماوات دهشة الأشياء الصغيرة ثم عادت طفلة تحلم بحقول سكر وهي تقرأ قصيدة الأم هنا عبرت ملامح بيلاجي أم بطل غوركي، نظرت إلى الوجوه أمامي كانت تمسك قصائد هدى الدغفق بقسماتها، فنبراتها، واحساسها الباذخ، والقائها الجميل، لامس افئدة الحاضرات فصفقن لها، وتلتها ملاك بقصائدها العمودية الممتلئة بملامح الجوف، النابتة من جذور الزيتون.
وسعدت باتفاقنا جميعا على فتح حوار عن المرأة والكتابة، كنا جميعا نحمل هما واحداً، المرأة والكتابة، وتحقيق ذاتها عبر الكتابة، والوعي الذي تخلقه الكتابة، كان الحوار جميلا رقراقا، فقد تدفقت اسئلة اشعلت المساء فانتصبت حكايا البدايات، والهمة التي قاومت الصعوبات ونثرت اجابات هدى وملاك الأمنيات وحفزت الحاضرات على تحقيق ذواتهن.
. وأنا اقف أمام الحاضرات لم يعلمن أنني منذ وصلت وأنا اتجادل مع (الذكر)الجوفي، هدى وملاك تعلمان فقط.
كنت أسأل عن المرأة الجوفية، ازعجني وجود ذكوري محتشد، ووجود رجولي قليل !!، في الصباح وأنا أتجول في مهرجان الزيتون، حييت بحب أيادي الحرفيات الطاهرة التي حفظت أناملها تراثنا، ورأيت حصاد الزيتون، ولم أر من شاركت في رواء أفنان الزيتون، تأملت اللوحات والصور الفوتغرافية، وعلمت أن مبدعاتها لايحتفين بإبداعهن فهن غائبات عنه، أصبحت المرأة في الجوف هاجسي، غياب المرأة الإبداعي في الجوف مخيف، هذا يعني أن تنمية المجتمع في الجوف مشلولة، تلك اللحظة شعرت بانني لست كاتبة بل حقوقية حادة والقيت سؤال باك عبر الشمال: أين كاتبات ومفكرات الجوف؟
انتهت الأمسية، صافحتني أكثر من ذات رائعة ومنهن شاعرة شعبية جميلة عبرن عن إعجابهن بالامسية، عانقت ملاك وهدى، رأيت بريق أمنيات في عيون الحاضرات، تلك اللحظة لامسني حلم أن آتي ذات يوم وأدير أمسية (ملكة) قاصة وروائية من الجوف. وفي اللحظة ذاتها رأيت زنوبيا وعادية وشمسي بحليهن الملكية يلوحن لي، وسمعت وقع خطوات ظاهرة الشرارية، وحفيف أشجار الزيتون.
تحية لقامة
عبر الأمسية كان لابد أن نمر به، نحيي قامته الإبداعية، إنه (تنويري) الجوف الحاضر و الغائب والذي فتح آفاق فكر فيها الكاتب والقاص والفنان والشاعر عبدالرحمن الدرعان وامتلأ المسرح بالتصفيق.
تحية خاصة
لفهد الراشد الأمل الواعد، والذي بفكره الذي يحمل طموح شابات وشباب الجوف سيساهم في تنمية ثقافية مجتمعية تدعم المرأة في الجوف.