كل هذه السرعة.. كل هذه المعرفة الطازجة والمعلبة.. كل هذه الأنماط من الوعي، كل هذه الحياة بمعطياتها المتقدمة، لم تمسح شيئاً يسيراً مما علق في ذاكرة البشر الجمعية؛ ما يمكن أن أقول عنه ومعه الخرافة أو الأسطورة (mythology)، حين ظهرت أو أظهرها الإنسان البدائي القديم، الذي حين تلفَّت حوله لم يجد إلا الطبيعة، التي كوَّنت مادة أسطورته وبرَّرت له الكثير من أجل ذلك. إلى أن امتد هذا الفكر الأسطوري، وظهر في أوروبا وأطراف كثيرة من الدنيا. وكان لكل بقعة جغرافية ونفسية أسطورة ما وخرافة ما، تتناقلها أذهان البشر، وتؤمن بها إيماناً لا يقبل المساس حتى من أجل الفهم ذاته! وأحياناً أخرى لا تصل إلى هذه المسافة من القدسية، إنما من مدخل التقليد والشعائر الاجتماعية.
في آسيا البعيدة قليلاً كثير من هذه الأساطير المسلية فيما يخص مواسم الحصاد، وجني المحاصيل. وتصاحب هذه الطقوس عبادات وقُربات معينة، يُزْعَم أنها تُدرُّ البركة، ويُتَفادى بها غضب روح النبات العظيم؛ ليُنتج في الموسم القادم! فتقوم امرأة مسنة بمهمة تقليم الأشياء الزائدة، ولف الشجرة والمكان المحيط بها بقماش نظيف مخصص يُشترى لهذه المناسبة، حين يكون النبات قد حُصِد لمرات عدة. وتقوم بالعملية ذاتها فتاة غير متزوجة مع الحبوب التي تُحْصد لأول مرة تفاؤلاً لها بالزواج والذُّرية التي لا يصيبها أي مرض!! وتقام احتفالات ورقصات خاصة لأسابيع وأيام في كل مرة، ولكل نوع من هذه الأنواع. فتُفتح البيادر ليلاً، ويتبادل أصحاب الحقول أنواعاً من الحبوب، وقبل ذلك يكون الجميع قد صنع دمى كبيرة؛ ليقوموا بضربها وتقطيعها أو حرقها اعتقاداً بأن روح النباتات التي عُذبت ولم تغضب، ويجب أن تخرج الآن؛ لتعود في الموسم المقبل!! أما في المثولوجيا الإفريقية فقد قُدِّس الشَّعير، وقدست الذُّرة لدى بعض القبائل؛ فكانت تقام العبادات حول الحقول قبيل مواسم الحصاد، والرقص التعبدي لذلك لجلب البركة. وقد يُضحَّى بحياة طفل حديث الحياة من أجل ذلك!! وسادت في ألمانيا خرافة أخرى تقول: إن القليل المتبقي من الذُّرة من حصاد الموسم هو في اعتبار (الذُّرَة الأم)، التي تكون في هذا الموقف قد استسلمت، وأنها في حالة من الضعف!! فيعمدون إلى أخذ الأوراق المتبقية إلى بيوتهم، ويُعتنى بها عناية تقديسية من أجل هذه الأم!
الأمر نفسه يتقاطع مع ما يوليه الفرنسيون للذُّرة والحنطة من تقديس في القرون الأوروبية القديمة، فكانت نباتاً مقدساً يُصلَّى له ويُعْبَد!!
في اسكتلندا الأمر ربما يتجاوز العبادة يسيراً إلى أمور اجتماعية مجردة. فرح متاح للجميع.. وللجميع فرح المشاركة في احتفالات الحصاد، والبحث عن عروس أو حظ تجلبه أكواز الذُّرة!! فقد كانوا (ولا أدري إن كانت هذه الطقوس حية إلى اليوم أم لا في اسكتلندا تعييناً) يسمون آخر حزمة من الذُّرة بـ (العذراء) فيطوحون بها عالياً، ومن يتلقفها رجلاً كان أو امرأة سيتزوج أو ستحل عليه البركة قبل موسم الحصاد القادم. ثم يُلْبسونها قماشاً، وتُعلق على عمود في العراء، وتُقام حولها حفلة للأكل والرقص! والكثير.. الكثير من هذه الخرافات «المُسلّية» التي ما زال بعضها قائماً بفرحه إلى لحظتنا هذه في الحقول الأوروبية. وليست الذُّرة وحدها؛ فللبطاطا طقوس لا تقل بهجة ولا خرافة عن تلك!!
حتى على المستوى المحلي، والمحلي جداً، في أوطاننا، هناك الكثير من الخرافات الشبيهة فيما يتعلق بالثمر وخيرات الأرض وارتباطها بغيبيات ما.
إلا أنني أتساءل مع كل هذا: لماذا ظلّ الإنسان الأسطوري والخرافي حاضراً بكل هذا الدأب الموسمي، والإحالة إلى الغيبيات والتكهن؟! هل ثمة هُوة ما لم يردمها كوز ذُرَة، أو لم تستطع أن تُقْنعها منطقية روحية ما!؟