تنهمك شخوص روايات الكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل قبل أيام فقط في البحث عن الذات، فتعرض روايته التي تحمل عنوان «مجهولات»، قصصا لذوات منهكة، فاقدة للهوية ومجهولة على صعيد الذات والآخر.
وتركز الرواية الضوء على حيوات ثلاث نساء يظهرن على ساحة الحدث الدرامي على شكل ضحايا لأسر مفككة تحكمهن علاقات إنسانية مبتورة، يفتشن عن معنى للحياة، وتفترسهن الوحدة والغربة والتعاسة» يفاجئني في كل مرة استيقظ فيها إحساس الخيبة الذي خلفته في نفسي هذه المرحلة القديمة من حياتي لتجعلني تعيسة، حتى أنني فكرت وأنا أعبر الجسر ذلك المساء أن ألقي بنفسي في نهر الساون».
وللهروب في هذه الرواية تلوناته المختلفة وسطوته، فهو ثيمة رئيسة في العمل تطفو دائما على السطح» استقليت قطار النوم من محطة براش.. راودني شعور بأنني افر»، «وكأن حياتي هروب من غير نهاية»، حتى الشارع يهرب «ورائي شارع يبدو مهجورا بشجره الذي تعرى من أوراقه. بدا تحت ضوء عواميد الإنارة الباهت، وكأنه يهرب إلى ما لانهاية». والشخوص الذين تقابلهم البطلة غالبا ما يختفون ويرحلون فجأة دون تمهيد أو أسباب واضحة. ويتدفق سرد موديانو متعمقا في الغوص في دواخل ذوات شخوص روايته التعيسة بسلاسة وبأسلوب سينمائي تصويري كما تظهر ذلك الترجمة العربية لرنا الحايك / الطبعة الأولى (2006).
ومن ثيمات النص يبرز كذلك الغموض والخوف من المستقبل المجهول، فالبطلة الأولى في الرواية بعد هروبها من (ليون) إلى (باريس) وهي لم تزل بعد قاصر، فارة من محيط أسرة لفضتها وتخلت عنها بشكل فظ، تأخذ في وصف مشاعرها وهي تجول في المدينة وحيدة وإن كانت في الحقيقة تجول في داخلها «في طريق العودة يكون الليل قد هبط، ويتملكني قلق غامض عند التفكير بالمستقبل»، غير أن قصتها لا تختلف في كثير من منطلقاتها وبعض تداعياتها عن قصة البطلة الثانية، المرأة التي تستضيفها في باريس، ولا تختلف عن قصة بطلة الرواية الثالثة أيضا. وهو ما يجعل البطلة الثانية بالتالي تخبر صديقين لها عن قصة حدثت لها على أنها حدثت للبطلة الأولى وهو ما تعلله الأولى بأنه : «كان هذا لطيفا منها، ربما اعتقدت أننا متشابهتان لدرجة أن حياتينا من الممكن أن تكونا متشابهتين».
وفي مدينة لا تزال مجهولة المسالك تفتش البطلة الأولى لها فيها عن موقع في هذا العالم «أين هو مكاني لم أجده بعد؟»، ويجيد الكاتب في تدوير لعبة السرد بين بطلات عمله الثلاث عبر تقنية التذكر والاسترجاع. وتأتي الغربة أيضا المعششة في نفوس شخوص الرواية حتى غير الرئيسيين منهم كقاسم مشترك آخر بينهم، فهم يفتقرون للاستقرار والأمن، كما تقول البطلة «لست حاليا سوى فتاة شقراء مجهولة الهوية»، غير أنها تتمنى» أن تبقى هكذا للأبد»، بعد أن ألفت فقدان البوصلة.
وعبر لعبة التذكر كذلك تحضر الصور القاتمة لطفولة البطلة الأولى وصباها، ونشأتها في عائلة مفككة تفتقر للعاطفة وربما هذا ما يدعوها للهرب الدائم بحثا كما تردد عن «الحب الكبير»، فزوج والدتها ينظر للنساء بأنهن الشر ذاته، فيما أمها وخالتها الوجه الآخر لعدم الاكتراث بها «لم أعرف أبدا الحياة العائلية»، كانت في المدرسة الداخلية، مدرسة الراهبات التي ألحقتها بها خالتها لتتخلص منها تحلم بالهرب أيضا»، « غالبا ما كانت تتملكني رغبة في الهروب».
فهي تعيسة «أعتقد أنها كانت تعيسة مثلي في هذه المدرسة»، وسجينة تهفو للحرية بالذهاب إلى باريس ليس فقط للحصول على وظيفة لكن الأهم من ذلك لملاقاة الحب الكبير.
فيما تحضر صورة الأب المفقود بالنسبة لها والذي تتبع آثاره كوجه آخر للحياة العائلية التي تمنتها معتقدة بأنه لو كان والدها موجودا لكان وجه حياتها سيختلف. ويلحظ القارئ للرواية ملامح مشتركة بين سيرة حياة باتريك وشخوص روايته، فالمشترك بينهما، طفولة بائسة وحياة أسرية مفككة. حيث ولد الكاتب في باريس عام 1945، من أب إيطالي وأم بلجيكية، وعاش طفولته وسط غياب الأب، وجولات الأم التي كانت تعمل ممثلة سينمائية. وفي حوار صحفي يقول حول ذلك : «المصادفة هي التي خلقتني عام 1945، وهي التي وهبتني أصولاً مضطربة، وهي التي حرمتني من محيط عائلي، فلا يمكنني أن أكون مسؤولاً عن الأفكار السوداء والقلق.. فأنا لم أختر، البتة، مادة كتبي». كما تشبه بطلة الرواية باتريك في حبه للقراءة «كانت معنوياتي تتحسن مع القراءة».
ويبدو العمل رغم بساطة أحداثه ظاهريا مليئا بالحمولات، مجسدا صور من معاناة شخوص مأزومة على صعيد الداخل والخارج.
و صدرت قبل أيام عن دار ميرت الطبعة الثانية من الرواية، وقد فاز «باتريك موديانو» بجائزة نوبل للآداب التي منحتها إياه الأكاديمية السويدية الخميس الماضي، ليكون بذلك الفرنسي الخامس عشر الذي ينالها، وكان آخر فرنسي فاز بالجائزة قبل موديانو هو جان ماري لو كليزيو، في العام 2008.
وأعلنت لجنة الجائزة، في استوكهولم، أن موديانو الذي يبلغ من العمر (69 عاما) استحق الجائزة بفضل «تمكنه من فن الذاكرة وإنتاجه أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم، وكشف العوالم الخفية للاحتلال. وهو ركز نتاجه الأدبي على مدينة باريس خلال الحرب العالمية الثانية» ولموديانو نحو ثلاثين عملا تم ترجمة 4 روايات منها إلى العربية هي : «مجهولات» ترجمة رنا حايك، (دار ميريت)، و»شارع الحوانيت»، ترجمة محمد عبد المنعم جلال، نشرتها (الهلال)، ورواية «الأفق» ترجمة توفيق سخان، وصدرت عن (ضفاف واختلاف)، و»مقهى الشباب الضائع»، ترجمها محمد المزديوي، وصدرت عن «الدار العربية للعلوم».