وأتحدث هنا عن المجلات الثقافية المحدودة في المملكة وقد أوقفت وزارة الثقافة والإعلام عنها الدعم السنوي كما جاء على لسان رئيس تحرير «الفيصل» عبر الحوار الذي أجرته معه صحيفة الحياة قبل أيام، وهو خبر مؤسف حقاً وخطأ لا يغتفر بحق منابر مهمة تربت أجيال كثيرة على معطياتها وإنجازاتها منذ زمن كانت مصادر الثقافة شحيحة، والانتقال إلى القراء صعب وشاق.
ولم أقرأ رداً للوزارة على هذا الكلام وكأنها تقر به وتعترف، وهو أمر لا يليق بها، ولا تستحقه هذه المنابر المهمة ذات الجمهور في الداخل والخارج، وتؤدي رسالة ثقافية مشهودة، رغم تحديات النشر المتجددة.
وهي أيضاً جزء من الواجهة الثقافية للبلاد، أسهمت كثيراً في تشكيل الحراك الثقافي منذ عدة عقود، وكانت مجالاً رحباً للدراسات الجادة والجدل المعرفي، ووضعت اللبنات الأولى لكثير من المشاريع، وعلى صفحاتها نمت معارك أدبية لا تُنسى، وأفردت صفحاتها للإبداع المحلي والعربي بوعي ورحابة وتنوع، رغم المحافظة في كثير من الأوقات، وهي مع هذا وذاك تشكِّل علامات عريقة يمكن تطويرها وتلافي أخطائها ومساندتها للقيام بأدوارها بعقد ورش العمل، وقياس توجهات القارئ، وتحولات سوق النشر والتوزيع، ورفع كفاءة العاملين وطرائق الإنتاج والطباعة، والاستفادة من تقنيات النشر الحديث وتطبيقاته.
الغريب أن بعض قطاعات الوزارة تهدر مالاً طائلاً في مجلات ومطبوعات هزيلة لا يمكن مقارنتها بهذه المجلات التي تحاصرها الآن وتحكم عليها بالموت بإيقاف الدعم فمن يقرأها يعرف أن تكاليف الإنتاج تزيد كثيراً عن قيمة البيع السوقية المعلنة لها وربما كان الدعم الرسمي يغطي جزءاً من التكاليف، إضافة إلى اشتراكات الجهات الرسمية التربوية والأكاديمية، وهو واجب عليها.
هذه المجلات أجدى وأكثر نفعاً من سلسلة المكتبات العامة المنزوية في الأحياء الضيقة لا يرتادها مستفيد ويتكدس فيها مئات الموظفين، وتصرف عليها الوزارة مئات الملايين سنوياً في إصرار نادر على هدر المال العام. وهي أيضاً أكثر نفعاً من المعارض المتنقلة تحت مسمى الأيام الثقافية في الخارج لأن هذه المجلات توزع في الخارج ويعرفها القراء في المشرق والمغرب العربي أكثر من معرفتهم بفعاليات الرقص والمزمار والخبيتي و «كشخة الشماغ والعقال» في معارض صورية أثبتت فشلها وضعف أثرها.
وعندما تعتمد هذه المجلات على حركة التوزيع فحسب فإنها لن تعيش كثيراً، وهناك نماذج لمجلات عربية عريقة كانت مدعومة حزبياً أو حكومياً فضمنت البقاء ثم حين تركت نهباً لحركة السوق توقفت فالمجلة الثقافية لا تستهدفها عيون المعلنين، ولا يمكن رفع سعرها كما تفعل مجلات الأزياء والديكور والمجالات الفارهة. ومشكلات اقتصاديات الثقافة لا تقف عند المجلات الثقافية بل تتعداها إلى كثير من قطاعات النشر والطباعة والتوزيع، وهذا قدرها ونصيبها في عالمنا الثالث!
والمأمول من الوزارة تعزيز المشاريع الثقافية الرائدة في البلاد، وعلى هذه المجلات أن تعيد النظر في محتواها وطريقة تحريرها وإخراجها وشموليتها، وأن توثِّق صلتها بالقضايا الثقافية والعلمية العميقة في المملكة والعالم العربي، وتعقد شراكات مع مؤسسات ثقافية وعلمية، وتستفيد من البارزين في مجالاتها بتشكيل مجالس استشارية تساعد في رسم خطط المجلة وتعين على الاقتراب الحقيقي من القضايا الراهنة، مع الاستفادة من أدبيات النشر الإلكتروني وتطبيقاته والإيمان بالتواصل التفاعلي وبناء المنتديات الافتراضية لمد جسور التواصل مع المستفيدين، وتقديم منتجات أخرى كالكتب المتخصصة، وقيادة مبادرات في الكتاب الإلكتروني والفنون والظواهر العلمية لتضمن هذه المجلات بقاءها وحيويتها ولا ترتهن لإرث الأمس ومتاحف إنجازاته مهما كان جميلاً فالظروف تتكالب عليها، فيما يبدو!.