كتبت فرجينيا وولف في رسالةٍ إلى صديقٍ لها تفنّد رأي صديقٍ آخر يزعم أن فنَ كتابةِ الرسائل قد اندثر بسبب الهاتفِ، ويرى أنه صار من السهل كتابةُ عباراتٍ كثيرةِ الأخطاءِ النحويةِ على البطاقاتِ البريديةِ لنقل الأخبار عوضًا عن الرسائلِ الطويلة ِ-لا أظنه سيغير رأيه كثيرًا لو أنه عاش إلى يومِنا واختبر بنفسه الرسائلَ النصيةَ وبرامجَ المحادثاتِ والرسائلَ السريعة- لكن وولف برغم كلِ الحججِ التي ساقها هذا الصديق ترى أن فنَ كتابةِ الرسائلِ قد بدأ بالانتعاش للأسبابِ ذاتها، فهذه الرسالة التي قد يكلف إرسالُها مبلغًا زهيدًا قد تكون على قدرٍ من الأهمية يخولنا قراءتها بصوتٍ عالٍ ولفها بشريطٍ حريريٍ وربما تُنشر بعد سنواتٍ فتدخل التاريخَ من أحد أبوابه الكثيرة!.
غالبًا ما تكون كتبُ الرسائل رسائلَ حقيقيةً تبادلها شخصان حقيقيان -كما أشارت وولف- ويجدانها مساحةً مؤاتيةً لعرض الأفكار والنقاش حول نقطةٍ تشكل مثار اهتمامِ الاثنين مثل رسائل «مي وجبران» و»منيف وبازرباشي» في أدب الصداقة، ومن ناحيةٍ أخرى نجد رواياتٍ تقوم في حبكتها الفنية جزئيًا على رسائلِ شخصيتين روائيتين لا وجود َلهما على أرضِ الواقعِ كما في» آلام فارتر» لجوته، أو كليًا والأمثلةُ على ذلك كثيرةً منها «صاحب الظل الطويل» للكاتبة الأمريكية جين وبستر، رغم أنها كانت تقوم على رسائلَ من طرف ٍواحدٍ هو جودي البطلة إلى صاحبِ الظل الطويل الذي لم يكتبْ إليها رسالةً مباشرةً واحدة! وعربيًا هناك رواية «أنثى السراب» لواسيني الأعرج، ولعل الأمثلةَ كثيرةٌ مما لا يمكن حصره هنا.
في كتابِ «رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس» نن للكاتبةِ العمانيةِ ليلى البلوشي -صدر عن دار الانتشار العربي 2014- ما يعزّز رأيَ وولف بطريقةٍ ما، أعني برغم ِكل التقنيةِ التي تحيط بنا فما زالتِ الرسائلُ حاضرةً مثلما كانت دومًا. في العنوان تنويهٌ أن الرسائلَ مفترضةٌ، وهي كذلك من ناحيتين؛ الأولى أنها كانت من اختلاقِ الكاتبة كليًا رغم أنها لم تختلقِ الشخصياتِ، والثانية أنها اختارتِ الفضاء الافتراضي ليكونَ البريد الإلكتروني ناقلاً لها عوضًا عن الأسلوبِ المتعارفِ عليه في كتابة الرسائلِ الورقية ودمغها بالطوابع وإيصالِ ساعي البريد لها.
ولأن العنوانَ هو العتبة الأولى التي نقف عليها للعبورِ نحو النصِ، أو القبعة -كما يحلو لي أن أسمّيه فيما يشبه الهرطقة- التي تشي بشخصيةِ مرتديها، فقد يظن القارئُ للوهلةِ الأولى أنها مجردُ رسائلَ بين عاشقين تفيض رومانسيةً وغرامياتٍ، غير أنّ ذلك من هذا المنظورِ فيه ظلمٌ كبيرٌ لأنها لم تكن كذلك، بل لعل هذا الجانبَ العاطفي كان طارئًا -إن صحّ التعبير- في الكتابِ الذي بلغ عددُ صفحاتِه أربعمئة صفحة تقريبًا، وبدلًا من ذلك توسّع الكاتبُة المساحةَ للحديثِ عن الكتابةِ والأحلامِ والسينما والحريةِ والسياسةِ، ما يعني أنها حياةٌ كاملةٌ على ورق!.
يرى ميللر في إحدى الرسائلِ -المفترضةِ- أن الكاتبَ الذي يفشل في تغييرِ واقعه الشخصي لن يتمكنَ من إحداثِ فرقٍ في العالم من حولِه «فالحياة لا تمنح عظمتها على وجه اعتباط!»، ويذكر عددًا من أولئك الذين نجحوا في مجابهة الظلم أيًا يكن مصدره كـ»مالكولم إكس» و»غيفارا» و» لوركا» وغيرهم، وترى نن الحكيمةُ في ردِّها عليه -افتراضيًا- أن جبنَ الكاتبِ هو ما يجعل كلماتِه متقدةً بالحماسِ، ولا تراها ازدواجية بقدر ما هي مرارةٌ تخفي «وقوعه بين عجزين حقيقيين» تنتهي غالبًا بانتحار هذا الكاتب حين يدرك عجزه وهزيمته، كما حدث مع «همينجواي «و»ميشيما» و» فرجينيا وولف»، وترى نن/ ليلى أن الانتحارَ بحدِ ذاته فعلُ مقاومة ٍورفضٍ لما فشل الكاتب في مواجهته فعليًا، وليس ذلك خيارًا سهلاً أبدًا!.
بالرغم من كل الافتراضياتِ التي أحاطت بنا على امتدادِ صفحاتِ الكتاب، تستعيد الكاتبةُ ذاتها الحقيقية بعد أن تركتها عندَ العتبة-مثلَ البجعة التي تحلّق نهارًا وتعود لطبيعتها الإنسانية ليلاً- متمثلةً بالعبارةِ الأولى التي تبدأ بها الرسائل فتطرق القلبَ بقوة وتُسقط الروحَ في هوة ٍعميقةٍ: «حبٌ معافى أبدًا هو حبُ الأبِ»، تستعيد روحَها وتخلع عنها قناع ميللر ونن، لتكون ليلى فقط في رسالةٍ توجّهها للأبِ الراحلِ منذ سنواتٍ، لكنه بعدُ لم يغادر ها، وبخاصةٍ وأنه يشهد ظهورَ الرسائلِ إلى النورِ كما شهد كتابةَ بعضها قبلَ رحيله. لم يكنِ الخطابُ رثائيًا -مع أنه لم يخلُ من نبرةِ ألمٍ رزينٍ توشّحَ بالإيمان ما دام الفقدُ هو الثابتُ والبقاءُ هو المتحولُ كما تقول صديقتي- بقدر ما كان طمأنةً للأب أنّ صغيرتَه على ما يرام كما يريد لها دومًا، معترفةً أن الرسالةَ التي قيل إن «ماركيز» قد كتبها قبل وفاته ثم تبيّن أنّها لكاتبٍ مغمورٍ كانت نوعًا من الترياقِ الذي شفاها من لسعةِ الشعورِ بالخيبةِ والهزيمةِ أمام الفقد، برغم أنها حاولت تدريبَ نفسها عليه قبل أعوامٍ من وقوعه، غير أن أيامَ من نحبّ» مهما طالتْ تبدو قليلةً في عيونِنا البخيلةِ» كما تقول إميلي ديكنسون.