(أ)
تعمل مقولة: (الفرقة الناجية) في الخطاب الديني-السياسي في حقل التحريض على الإقصاء وتغطيته بإفتاء وغطاء دينيّ، أيّاً كانت أدوات الإقصاء وأشكاله: بسيطة قائمة على الانتباذ المعنوي، أو معقّدة في أقصى تطرّفها المتمثّل بالتطهير الديني- وذلك عبر تقسيم الناس بين: (ناجيين وهالكيين)، فأنتَ إنْ تأمّلت المقولة لوجدتها تخصّ النجاة لفرقةٍ والهلاك للآخرين: (المتبقّي من الكل)، وهو ما يستثمره الخطاب الديني- السياسي الذي يعمل على تمثيل مقولاته وانزالها في الواقع، فكيف يمكن مطابقة المقولة بالواقع إذا لم يعتبرها رخصة له لتنفيذ النجاة في الواقع وتنفيذ الهلاك في الآخرين (الفرق الهالكة)، ولعلّ المقولة من الخطورة أنّها تستند إلى بيئةٍ حاضنة لهكذا مقولاتٍ تؤدّي إلى الفتن والنزاعات ولا يستهوي أصحابها استقراراً وأمناً، وأنت لا يمكن أن تراهن على إعادة التأهيل قبل الانتهاء من تهيئة وتنقية البيئة الحاضنة نفسها عبر تشريعات سياسيّة رادعة من الفتن والتفرقة، لأنّ الفُرقةَ أصلٌ في مقولات الخطاب الديني-السياسي، الذي يستغل الحديث المنسوب إلى النبي العربي عليه السلام لأجل تحويل الفرقة إلى ضرورة دينيّة لا يؤيّدها المتن، وهو ما يمكن ردّه عليهم لمخالفته الصريحة لآي المتن القرآني: (إن الذين فرّقُوا دينَهُم وكانوا شيعاً لست منهم بشيءٍ..).
(ب)
تتمثّل حاجة الخطاب الديني-السياسي إلى الاتّكاء على مقولة: (الفرقة الناجية) لأنّه يتّخذها رخصة لممارسة التطهير الإيماني (طرداً أو تهجيراً أو قتلاً) واعتبارها أصلاً لكي يتمكّن بالاستناد إلى (علم الناسخ والمنسوخ المزعوم) بحذف وبإلغاء أصول في المتن تُفضي إلى التعايش والتنوّع، لطالما هذه الأصول تقف عثرة في إحلال مقولاته على الواقع، وهي الآيات التي يتميّز بها المتن بوصفه متناً ينفي الأحاديّة ويزيحها من حياة الإنسان: (حاكماً ومحكوماً) ومحيطه وعلاقاته وكل ما حوله مادّة أو افتراضاً، ويخلعها من قوانين الإنسان ويخضعها للظرف والصلاحيّة، وفقاً لعلّةٍ في نشأة القانون يُحدّد وجوده أو زواله بقياس مدى منفعته للناس؛ فما من أحاديّة تخصّ الإنسان وعالمه الداخلي والخارجي، فالأحاديّة لله فقط؛ هكذا يكون التعدّدُ والتنوّعُ أصلاً في المتن مشتقّاً من شهادة التوحيد ذاتها، فأنتَ حينما تقرّ بنفي الأُحاديّة عن الإنسان فإنّك في المقتضى تثبّت التعدّد، وهو ما يتطابق مع واقع الإنسان وليس لعاقلٍ معارضة التعدّديات: في اللون، اللسان، المعتقد، الميول، الطباع والخصوصية، وغيرها من الاختلافات التي يحملها الإنسان بوصفه مُتعدّداً ولا يكون واحداً أحداً أبداً؛ وهكذا اعتقاد يسدّ الباب على استغلال إيمان الناس لأجل تثبيت أهداف الخطاب الديني-السياسي في الأطماع السلطوية كبديل شرعيّ إيماني (واحد وحيد لا منافس معه، لا شريك، لا ناجٍ في الدنيا غيره قبل الآخرة)، ولذلك فإنّ خطابهم لا يقوم دون (ادّعاء) إلغاء آيات التعايش والتعدّد، والاتّكاء على حديث منسوبٍ يُعارض المتن مبنى ومعنى؛ فحينما يقدّم الخطاب مقولة: (الفرقة الناجيّة - الفرق الهالكة) فإنّه بذلك يعمّد نفسه بديلاً قادراً على تحويل الواقع من واقع هالك إلى واقع ناجٍ، بديلاً يحظى بالحقّ الشرعي الوحيد (الفِرقَةُ: الجزءُ وليس الكلّ، جزءٌ من الناس ناجٍ في الدنيا وبقيّة الناس إلى هلاك، جزءٌ من الوطن باقٍ وبقيّة الوطن إلى هلاك).
(ج)
لا يمكن هاهنا إغفال العلاقة بين مقولة: (الفرقة الناجية والفرق الهالكة) وبين ما درجوا على تسميته (آية السيف) ومقصّات (الناسخ والمنسوخ)؛ ولعلّك تتساءل: (ما علاقة المقولة بالآية والناسخ)؟ وهي العلاقة التي تتّضح عند بحث التبريرات الدينية التي يختلقها الخطاب هدفاً في تصفية خصومه واقعاً وتديّناً، لطالما في زعمهم المٌفترى على المتن أنّ آية التوبة: (فإذا انسلخَ الأشهُرُ الحُرُمُ فاقتُلُوا المُشركينَ حيث وجدتمُوهم..) قد نسخت أكثر من مئة آية، جميعها تحثُّ على التعايش والتعدّد والتنوّع؛ (انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تأليف أبي جعفر النحّاس، المكتبة العصرية، ص: 271)، فكيف يمكن للخطاب الديني-السياسي إباحة التطهير الديني بينما آيات المتن توجب التعايش والتعدّد وتجرّم العنصريّة الدينيّة دون استنادٍ إلى ما هو متوفّرٌ في علم الناسخ والمنسوخ، وهو الإجراء الافترائيّ الذي يحرّف المتن بطمس معانيه التعدّديّة العلنيّة، وذلك لإباحة التطهير الدينيّ، فأنتَ إذا شئتَ أن تعرف كيف يفكّر هؤلاء فإنما عليك أن لا تغفل عن كتب الناسخ والمنسوخ لتتعرّف وتتطّلع على ما يستند إليه التطرّف في خطابه، ثمّ تقف على سؤال المسؤوليّة:» (من المسؤول عن بقاء هذا العلم المزعوم كجزء من الدين؟) وكيف لهذا العلم المزعوم أن يكون مرجعا لفتاوى وتشريعات لا يقدر دُعاة الاعتدال قبل التطرّف نكرانها، فكيف السبيل إلى مواجهة التطرّف ببطلان مراجعهم، وهي المراجع عينها التي يستند إليه الاعتدال؛ فأنتَ إذا عرضت ما فعل (الناسخ والمنسوخ) بآيات التعايش والحريّة والمسؤولية أمام دُعاة الاعتدال لوجدتهم يرفضون هذا النسخ (تُقيةً أو صدقاً) لكنّ المعضلة أنّهم يقرّونه في الكثير من فتاوى وتشريعات حياتيّة هامّة كالمواريث مثلاً. ومن هنا توجّب علينا أن نعرض كارثيّة الإدّعاء بأنّ (آية محدّدة الوظيفة) نسخت أكثر من مئة آية مطلقة المعنى في المكان والزمان، فآية السيف آنية يتّضح من سياقها أنها مربوطة بحدث وبزمن محدودين، حالها كالآيات التي تحدّثت عن الوقائع التاريخيّة ذات مناسبات محدودة ومحدّدة. ونحن لا يمكن لنا فهم الواقع الدعوي للإقصاء/وللعنف وتمجيد التفرقة بينما نقف موقفا لا مباليا من وجود مفهوم الناسخ والمنسوخ والفرقة الناجية على الأرض تعليماً وتربيةً، وله في الواقع نفوذٌ يؤثّر على أيّ دولة ذات بيئة دينيّة حاضنة يُراد لها أن تحفظ الحدّ الأدنى منالسلم الأهلي بين مكوّناتها جميعاً على أساس لا (فرقة) بين مواطني هذه الدولة.
(د)
العنصريّة ومقولة (الفرقة الناجية): حينما يمجّدُ الموهوم بوجود عرقٍ صافٍ لم يُهجّن بأعراق أخرى، كتمجيد النازيّة للعرق الآري وأنّه فوق الأعراق حقّاً وكرامةً وقوّة فإنّنا نرى العنصريّة ولا نختلف حولها، فهذه عنصريّة تمجّد عرقاً موهوماً وبموجب هلوساتها تبيح التطهير العرقي، وكذا حال عنصريّة (الفرقة الناجية) في خطاب الديني-السياسي تمجّد نفسها فكراً وإيماناً وبموجب هلوساتها تبيح التطهير الديني في باقي المذاهب والأديان.
كلّ عنصريّة نجسٌ، وتأتي مخاطر عنصريّة التديّن واختزاله بالفرقة الناجية لا شريك لها، أنّه إيمان يمكن أن يتمدّد في أنحاء عديدة من العالم تمدّداً خطيراً، وفي مُدد قصيرة نظراً لوجود المؤمنين في كلّ مكان، ممّا يعرّضهم إمّا للكفر أو للقتل، وإمّا يجعلهم أتباعاً يمارسون الفرقة عينها، وهي مخاطر لا تُعالج بالثقافة وبالتأهيل ويصعب محاصرتها ما لم يسبقها تشريعات دوليّة واتّفاقات حاسمة بين الدول الحاضنة لمركزيّة أو رمزيّة دينية لتشريع قوانين تجرّم العنصريّة الدينيّة وتردع تقسيم الناس بين ناجٍ وهالكٍ وفقاً لمعتقداتهم.
(ه)
لا يتوقّف أثر مقولة (الفرقة الناجية) على معارضة المتن القرآني وشرعنة التفرّق والانشقاق، والنعرة العنصريّة الإيمانيّة، وحالهم ينطلق من قوله: (أنا خيرٌ منه..)، بل تتعدّاه إلى محو الفرد وقيمة أعماله وتقواه، فنحن في معرض قراءتنا إلى آية الحجرات: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، فإنّ المفاضلة بالتقوى لا تكون على مستوى الجماعة، وهذا ما يؤيّده طبيعة التكليف، والذي محلّه الفرد؛ فكيف يمكن أن تقاس تقوى الجماعات إذا لم يكن على أساس تقوى الفرد، وهي تقوى تخصّه هو ولا يمكن تعميمها على جميع أفراد الجماعة التي ينتمي إليها؟! وتأتي عظمة الآية: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) أنّها تحدّثت عن طبيعة الحياة القائمة على تعدّد الجماعات وأنّ الأكرم والأفضل ليست طبيعة في جماعة دون أخرى، فلا يغترّ أحدٌ بإيمانه على أحد، بل هي موجودة في كل شعب وقبيلة، لأنّ الأخلاق والتكليف قائم في الفرد لا في الجماعة، ولأنّ التقوى والأخلاق الموجبة للمنفعة ليست هبةً، ليست جبلة في إنسان دون آخر، بل هي أخلاق يمكن اكتسابها في أيّ وقت كما أنّها أخلاق ليست ثابتة بل متغيّرة، وبها يتفاضل فرد على آخر، لا على دلالة العنصريّة بل على دلالة قبول واحترام الآخر دون إقصاء، وهذا أصل في التقوى. بينما تُفضي مقولة (الفرقة الناجية) إلى سقوط التكليف الفردي، وجعل التقوى جبلة في إنسانٍ دون غيره كمفهوم شعب الله المختار لمجرّد انتمائه إلى جماعةٍ متميّزة، (فماذا يختلف مفهوم الفرقة الناجية عن مفهوم شعب الله المختار؟!)، فكلاهما يسقط قيمة الشخصيّة الفرديّة، ويدّعي أنّ الأفرادَ في الفرق الأخرى كافرون وهالكون، لا لشيءٍ يخصّ الفرد ومعتقده وتقواه وأخلاقه وأعماله وعلاقاته الحسنة بالآخرين، بل لأنّه ينتمي إلى فرقة غير (الفرقة الناجية) التي يستغلّها الخطاب الديني-السياسي أسوأ استغلالٍ لإباحة قتال جميع الفرق المختلفة، فإلى أيّ مدى يوافق العقل والضمير الإنساني اليوم هذا التصوّر، وكيف يمكن الاستمرار في معالجة أخطاء الاستدلال الديني-الإنساني دون الوقوف بالتشريعات بوجه هذه المقولات التي لا يمكن أن تفضي إلى ما يتصوّره الإنسان من التطوّر والتقدّم والأخلاق؛ فالأصل في الإصلاح فيما نتصوّره محلّه التشريعات التي تحاصر هذه المقولات وتجرّم استغلالها، وتمهّد حينذاك لقيام بيئة لا تنجذب لما يُقسّمها ويُهدّد وحدتها، بيئة لا تحضن هذه المقولات بنسبٍ تؤثّر على السلم الأهلي.