عندما تتوجه أي تربية في مسارٍ منظم مؤدلج منذ الصغر فإن المرء يشبُّ على قناعات معينة من الصعب بل قد تكون من المستحيل زحزحتها من عقليته صحيحة كانت أم غير صحيحة حيث إن العاطفة الصادقة القوية قد نضجت واستوت على سوقها وضربت بجذورها إلى أعماق نفس قد قنعت بأن ما غلّفه قلبه من أمور نشأ عليها لا يختلف على صحتها الكون كله! وإن عارضها العقل وهذا ما يراه لا ما يراه الآخرون! وكمجتمع ديني نشأنا عليه منذ الصغر من خلال التربية المنزلية والمدرسية وخلافه فقد حُصِّنّا من كل ارتدادات الغرب وما يحيكه منذ عقود وعقود! عبر مستعمراته وسيطرته ومن خلال جمعياته ومستشرقيه، وإعلامه المرئي والمقروء، فقد درجنا منذ لبان الطفولة على الاعتقاد بمؤامرات الغرب واستدراجه لعقولنا وقلوبنا بشتّى الوسائل والطرق حتى بات كل جديد يطرق بابنا يتلقفه البعض ويسوّق له باندفاع حماسي غير مسؤول! بينما يحاربه الآخر بكل ما أُوتي من قوة لأنه يهدد كيان أمة ومجتمع بالضياع! فإذا سمعنا بمصطلح العلمانية والليبرالية فإن ذلك يؤدي إلى شبيه الكفر وهو الفسق الخالص والفساد المبين بل هو الكفر نفسه ومن يحمل فكره فهو خارج من الملة! اختزال لا يخلو من القسوة هكذا نظنّ! يقابلها اقتحام مجتمع محافظ بفكر جديد متحرر يحاكي الغرب الكافر! بطريقة خاطئة تخلو من التمهيد والإقناع الممنهج ووسم الآخر بالرجعية والتخلف! وبالثقافة السلبية! ببرغماتية تبحث عن النتائج ولا تنظر للمبادئ الأولية، فكنّا نتحاذر أن يوسم أحد بهذا لأن كل شخص كان يشار إليه بذلك أصبح لزاماً علينا ألا نتحدث أو نتعاطى معه في شيء وألا نقترب منه مسافة مسيرة يوم كامل! فالديمقراطية والحرية خطّان قد يؤديان إلى ذلك الطريق إن جانبا الصواب بحيث يكون الدين لا أهمية في حياة المرء وقد نحّاه جانباً واستبدل بالذي هو أدنى بالذي هو خير ويكون قد باع آخرته بدنياه، هكذا كنّا نعتقد! لأنّ المصطلح قد أخذ بعداً سيئاً في نفوسنا فلم يكن هناك فسحة في القلب لدخول مفهوم غربي قد يقوّض أصالة مجتمع توارثه الأبناء عن الآباء عبر قرون بصبغة إسلامية محافظة فكان مفهوماً شاذاً منبوذاً كالمطلي به القار أجرب فما إن نسمع به حتى تصطك نفوسنا بالنفور منه! لأن مفهوم ومصطلح الليبرالية لا يكون كذلك إلا بتحقيق كامل الحرية برفع الخطوط الحمراء والصفراء وجميع الألوان ولا أهمية لدين أو تقاليد مجتمع أو عرف وإنما حرية مفتوحة وكاملة الدسفليس هناك ليبرالية محدودة وبخطوط فهي كنظرية ديكارت أكون أو لا أكون!! ولونها واحد واضح لا يدمج بلون آخر وبكل مكوناتها واتجاهاتها فالتحرر المطلق الذي نودي به في عصر التنوير قد يوافق المجتمعات الأوربية الغربية مع معارضة الكثير لتوجهاتها ولتماشي المجتمع الغربي بكل فئاته على التحرر المطلق أما المجتمع العربي والإسلامي فهو مناقض مناقضة كاملة لمفهوم الليبرالية الحقيقية والتي تعني التحرر الكامل، وما وافق مجتمع ما ليس بالضرورة يوافق مجتمع آخر! لذلك نشأ اصطدام وازدواجية تناقضية عند من يتبنى مفهوم الليبرالية بتطبيق إسلامي عند منتصف القرن العشرين وهذا تضليل مقصود لأن الإسلام أيضاً ينادي بالحريات والديمقراطية والتعددية وحمايتها ولكن تحت أطر منظمة وثوابت راسخة لا يجب تجاوزها لكبح جماح الأطماع والشهوات والفساد بكل أشكاله وألوانه وهذا يتناقض كلية مع مفهوم الليبرالية! وزاد الطين بلّه أنهم يريدون التخلص من التراث الديني وآراء العلماء الأوائل وتنقية الدين من كل ما سبق من أصول وجذور صحيحة قام الدين عليها والبدء من جديد على قاعدة ليبرالية إسلامية تدعو للحرية المطلقة وحماية الملكيات لأن الدين بحريته السابقة يشوبها الخلط والخطأ كما يزعمون! فنتج عن ذلك انسلاخ البعض عن أصوله العقدية انسلاخاً قبيحاً نراه في وسائل الإعلام بكل اتجاهاته دون حياء أو خجل مما أعطى تصوراً واقعياً دون مواربة وتأكيداً لما اختزلته الذاكرة عن معتقد الليبرالية السابق! وما كان يتكتم عنه ويحاول إخفاءه في الماضي أصبح شاهراً ظاهراً مع تقادم الأيام ومع ظهور الحداثة والعولمة وأشياء أخرى وما زالت العربة تسير باعوجاج بيّن لأن الطريق ليست معبدة كما يجب!!