يضع نظارته الصغيرة على أرنبة أنفه بتركيز شديد على الأوراق التي أمامه.. يمسك بقلمه الكريستيان ديور الفاخر، ويشرح بتوقيع جميل اعتاد أن يرسمه على المعاملات على كل واحدة على حدة، ليكون شرحه أمراً لا مردّ له.
يجلس الأستاذ نزار على الكرسي الفاخر خلف المكتب الخشبي الضخم المكسو على بعض أجزائه بالجلد الطبيعي الأسود وعلى يمينه فوق ملحق المكتب عدد من أجهزة الهاتف، حيث تقبع شاشة الكمبيوتر خلفها مع جهاز الفاكس، ومن الناحية الأخرى خزانة الدروع الكبيرة، تضم في جوفها خلف الزجاج شهادات الشكر، والدروع التذكارية، والهدايا القيّمة، التي صفت بطريقة مرتبة حسب أهميتها وعمرها.
جلس نزار على قمة هرم هذه الإدارة وعلى هذا الكرسي النرجسي منذ أكثر من ثلاثة عشرعاماً.. ها هو يتجاوز عمره الستين ليحين موعد التقاعد.
ينتظر طلب الاستثناء بالتمديد الذي طلبه الأستاذ نزار الرد من الإدارة العليا، للسماح له بالعمل كمدير لهذه الإدارة سنة إضافية قابلة للتمديد مرة أخرى.. بدا موعد التقاعد الذي حان في موعد في عيني نزار مباغتاً.. لم يحسب حسابه ليبقى على هذا الكرسي عاماً آخر.. ثلاثة عشر عاماً من العمل الإداري المتواصل.. لم يفكر يوماً من الأيام بهذه اللحظة الحاسمة التي يبتعد فيها عن كرسي الإدارة.. هذا المكان الساحر المليء بالدهشة والسلطة.
لم يخطر في باله أبداً أنه لن يكون مسؤولاً عن كل هؤلاء الموظفين.. إنه سيعيش بقية حياته مسؤولاً عن نفسه فقط.. لا غير.. لم يتخيل ان سكرتيره الوفي أبو سالم الذي كان يداعب مسامعه بكلام جميل، يبدأه كل مرة يدخل عليه فيها مبتسماً بـ(سم طال عمرك).. لن يقولها مرة أخرى، وسوف يقولها لمن يخلفه.. هذا الذي سيتربع على عرش الإدارة، والذي لم تحدد الإدارة العليا بعد من يكون؟
ينتظر نزار أو أبو أمجد (كما كان يحلو له أن يدعوه موظفوه) أمر الموافقة على التمديد واثقاً كل الثقة أنه لا يوجد موظف واحد في إدارته جدير بمكانه، لأنه لم يتح لأحد طيلة عمله فرصة بأن يبدع ويبرز، فيهدد موقعه، ويكون خليفته في يوم من الأيام.
يقطع رنين الهاتف الداخلي حبل أفكاره ليلف بكامل جسمه نحو الهواتف التي على يمينه وبشكل تلقائي جعله يعرف مباشرة أي الهواتف التي أصدر صوت الرنين ليرفع السماعة:
- أيوه أبو سالم.. أيش فيه؟ مكالمة من مين؟ من مدير مكتب وكيل الوزارة.. طيب.. طيب.. اديني هوّ.
تتغير تعبيرات وجه أبو أمجد، منتظراً بارتباك شديد المكالمة التي سيحولها السكرتير أبو سالم عليه.. فجأة يأتيه الصوت، فيرد بصوت مرتبك:
- أيوه.. الله يسلّمك.. كيف حال سعادة الوكيل؟ نعم.. سم طال عمرك.. أيش؟ يعني خلاص؟ عمر هو اللي حيصير مكاني؟ يعني ما لقيتوا غير عمر؟
ترتبك أفكاره، ويتشوش عقله، ويفقد القدرة على الفعل، وتملأ الدهشة وجهه، ويعجز لسانه عن التعبير، ويفقد السيطرة على نفسه فلا يعرف ما يقوله مدير مكتب وكيل الوزارة حتى أنهى المكالمة، وهو يتمتم دون أن يعرف هل يسمعه الوكيل أم لا:
- طيب.. طيب.. مع السلامة.
يستمر بهمهمته بإحباط وانهزام شديدين وهو يفكر ويكلم نفسه:
- معقولة؟ عمر! الأستاذ عمر!
يدخل السكرتير أبو سالم في هذه الأثناء قاطعاً أفكاره، يحدثه بكل أدب واحترام:
- طال عمرك..
يرفع الأستاذ نزار صوته مقاطعاً أبو سالم:
- ايش فيه؟
- طال عمرك.. فيه واحد يبي يدخل عليك.
- ايش يبغى؟
- ما أدري.. بس يقول انه يبيك طال عمرك بحاجة شخصية.
- ما عرفت من فين جاي؟
لا طال عمرك.
- طيب.. طيب.. خليه يخش.
يبحلق بعينيه من فوق النظارة نحو الباب ليرى الداخل، فيفاجئه آخر ما كان يتوقعه.. هذا الشخص؟ وفي هذا الوقت؟ وفي هذا الظرف السيئ؟ فيقف بشكل تلقائي من شدة الهول:
- من؟ عليان؟
يرد عليه عليان بكل استهتار وعلى وجهه ابتسامة الشامت:
- ايه أنا عليان.. أشوا ما نسيتني.
وبكل استهتار يجلس عليان على الكرسي الذي أمامه ويستطرد
- شفت يا نزار إن الدنيا دوّارة.. الأستاذ عمر هو اللي يبي يصير بمكانك وغصبن عنك.
- وأنت لحقت تعرف؟
- أيه عرفت.. وجاي أقولك.. كل شيء وله نهاية، وهذه نهايتك ونهاية الظلم، واللي راح يجلس مكانك هو اللي ظلمته وقسيت عليه.
يخفض نزار رأسه في ذهول وقد كست الدنيا من حوله ظلمة، أطفأت أنوار الأمل، وخرجت خفافيش الانتقام تحلق في ظلامه، وعليان يستطرد في كلامه، فيزيده ألماً..
- اطلع يا نزار من مكتبك.. ما هو مكتبك الآن.. ها الحين هو مكتب الأستاذ عمر.. اطلع وشف الموظفين برا كيف فرحانين، ويبون يسون حفلة بها المناسبة.
كانت هذه آخر كلمة قالها عليان، ختمها بابتسامة احتقار، ونظرة اشمئزاز، وخرج من المكتب تاركاً وراءه نزار ينزف آلامه.. ودمه يسيل من جراح عميقة، أصبحت هدفاً لكل حاقد يتلذذ بالتشفي.
دخل أبو سالم بعد ان سمع الخبر من الموظفين، وعيونه تدمع بألم وتعاطف مع مديره الذي خدمه لسنوات طويلة، وسوف يخدم غيره من بعده.
- طال عمرك.. ترى الدنيا ما تسوى تسوي بنفسك كذا.
يرد عليه بتثاقل ونبرة عزيز قوم، ذلّ.. يغمره حزن شديد.
- خلاص.. خلاص.. يا بو سالم.
- سم طال عمرك.. تبي شيء طال عمرك؟
- أيوه.. وديني لبيتي ماني قادر أسوق سيارتي.
- سم طال عمرك.
يأخذ أبو سالم بيد مديره السابق، ويخرجان في آخر مرة يخرج فيها نزار من مكتبه بعد ثلاثة عشر عاماً من السلطة والجبروت.. بصحبة سكرتيره الذي لم ينظر له يوماً كإنسان، وعامله كواحدة من موجودات المكتب، ولم يتوقع يوماً أن يكون هو من يواسيه ويأخذ بيده، ويوصله بيته في نهاية رحلة عمر من.. السلطة.. التي انتهت إلى لا شيء.