نواصل هنا ترجمة مقالة الباحثة الأمريكية الشابة كيت مانباكي، التي تعد أطروحة دكتوراه عن نفوذ شبكات رجال الدين الشيعة في إيران الحديثة في قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون الأمريكية العريقة التي تأسست عام 1746 وجاءت عام 2013 في المركز الأول أمريكياً، وتليها جامعة هارفارد بحسب تصنيف مجلة (U.S. News الجزيرة World Report). نشرت المقالة في نوفمبر 2012 في نشرة (ميدل إيست مونيتر)، التي يصدرها بصورة غير دورية خزان التفكير الأمريكي الشهير (معهد بحوث السياسة الخارجية) (FPRI). ولعل خير افتتاح لهذه المادة هو المثل الفارسي الذي يحضرني الآن: (الثروة تأتي مثل سلحفاة وتهرب كأنها غزال)! وقد حذفنا قائمة المراجع الكثيرة التي وضعتها المؤلفة لأنها لا تناسب النشر الصحافي، وأضفنا هوامش للمترجم لتوضيح بعض الأمور الضرورية لاستيعاب القضية.
السياسة الفصائلية
والجدل حول قضية علي أكبر جوانفكر(4)
لقد كان من عادة وسائل الإعلام الغربية تبسيط الصراعات الفصائلية داخل إيران كاقتتال داخلي بين المرشد الأعلى والحكومة، ولكن هناك أيضاً توترات أيديولوجية عميقة الجذور تسببت في تلاسن الحكومة بعنف غير مسبوق ضد البرلمان والسلطة القضائية. وكانت معظم النزعات الأخيرة، وبخاصة في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي في إيران، بين أحمدي نجاد والأخوين لاريجاني المتشددين، واللذين يرأسان كل من البرلمان والسلطة القضائية. وبالرغم من أن أحمدي نجاد تلقى انتقادات شديدة من جميع الفصائل في المشهد السياسي الإيراني، إلا أن الهجمات الأكثر صخباً كانت من رئيس البرلمان علي لاريجاني. فقد أعلن علي لاريجاني في أوائل أكتوبر أن 20% من مشاكل إيران الاقتصادية سببها العقوبات فحسب، في حين أن 80% كانت بسبب سوء إدارة نجاد وحكومته. وأضاف متهكماً أن (تكتيكات روبن هود) التي تنجح في الأفلام لا يمكنها إصلاح الاقتصاد، وكان يعني بذلك أساليب أحمدي نجاد الشعبوية. ولكن دحض أحمدي نجاد فوراً تصريحات لاريجاني قائلاً: (إذا كانت العقوبات ليس لها تأثير، فإن قراراته (لاريجاني) في البرلمان بالتأكيد لها تأثير)، وأضاف نجاد: (وبدلا من إضاعة وقت رئيس السلطة التشريعية في إجراء مقابلات، ينبغي على رئيس برلماننا المحترم أن يتقدم ليساعدنا). وكانت الهجمات التالية من صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية وشقيق علي لاريجاني.
ويتجلى الصراع الحالي بين الفصائل في إيران بكل وضوح في قضية علي أكبر جوانفكر، المستشار الإعلامي الأكثر قرباً وتأثيراً على الرئيس أحمدي نجاد. بدأت هذه القضية باعتبارها مشادة داخلية شخصية وتحولت مشاجرة كاملة مخجلة بين رؤساء السلطات الثلاث أمام المرشد الأعلى والشعب الإيراني الذي ذهل بسبب انحطاط مستوى الجدل السياسي.
فبينما كان أحمدي نجاد يزور نيويورك لإلقاء كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم جوانفكر بإهانة الدين الإسلامي والمرشد الأعلى وحكم عليه بالسجن لمدة سنة في السجن. وبعد عودة أحمدي نجاد إلى إيران، لم يسمح له بزيارة جوانفكر في سجن أفين، ولذلك أرسل نجاد عدة طلبات لصادق لاريجاني للحصول على تصريح لزيارة سجن أفين حيث يقبع مستشاره الإعلامي. وبعدما رفض رئيس السلطة القضائية هذا الطلب مرتين، صرح أحمدي نجاد علناً أنه كرئيس للجمهورية ليس بحاجة إلى إذن من القضاء للوفاء بواجباته القانونية تجاه مستشاره الإعلامي، وأن إجراءات لاريجاني غير دستورية. ورد صادق لاريجاني بسرعة على الرئيس عبر وكالة الأنباء الطلابية الإيرانية المؤيدة له قائلاً إن (الرئيس لا يفهم مسؤوليات الفروع الثلاثة للسلطة وحدوده، وأن طلبه للزيارة غير مناسب في هذه الأوقات، لأن إدارة الاقتصاد المنهار أولى باهتمام رئس الجمهورية من زيارة سجين متهم بالطعن في الإسلام). وتدهورت الحالة وساءت خلال الأسبوع التالي عندما كتب كل من أحمدي نجاد من جهة، وعلي وصادق لاريجاني من جهة أخرى، رسائل مفتوحة عبر الصحافة ينتقدان بعضهما البعض. وانحاز علي لاريجاني – بالطبع - إلى شقيقه، واستمر في انتقاده لسياسة أحمدي نجاد الاقتصادية. وتصاعدت التوترات إلى حد أن أحمدي نجاد هدد بخفض ميزانية القضاء. ورداً على ذلك، كتب صادق لاريجاني رداً آخر على الرئيس مدعياً أنه (اختار الصمت لفترة طويلة في مواجهة الهجمات المتهورة وغير القانونية من الرئيس على القضاء ومسؤوليه، ولكنه لن يصمت بعد ذلك). ولم يتوقف هذا الصراع الداخلي إلا عندما وبخ المرشد الأعلى آية الله خامنئي، علناً أحمدي نجاد والأخوين لاريجاني، حيث دعا خامنئي في 31 أكتوبر (رؤساء السلطات الثلاث إلى التركيز على أعمالهم وعدم التدخل في شؤون الآخرين)، وأعلن أنه حتى موعد الانتخابات الرئاسية في يونيو 2013، فإنه سوف يعتبر أي مشاحنات داخلية بمثابة ارتكاب للخيانة. وشدد المرش د الأعلى أنه، خصوصاً في هذه الأوقات الاقتصادية الصعبة، فإن هذا النوع من الملاسنات يعتبر مضيعة للجهد والوقت، لأنه ينبغي أن تركز الأمة على حل مشاكلها. وأضاف أن هذه التوترات الداخلية تعطي الغرب المستكبر المزيد من الذخيرة ضد إيران، وتعرض البلاد لفضيحة في وسائل الإعلام الأجنبية يستغلها العدو. وبعد تهديد خامنئي، قام أحمدي نجاد والأخوان لاريجاني بإعلاولائهم علانية للقائد الأعلى، وتعهدوا بتحمل مسؤولياتهم الخاصة. ولكن بعد بضعة أيام فقط عادت المشاحنات، وإن كانت أقل قسوة .
خامنئي هو الفائز من الاقتتال الداخلي على الاقتصاد
إن هذه الصراعات السياسية الفصائلية هي في الحقيقة أكثر من مجرد صراعات داخلية على النفوذ، بل تمثل معركة أيديولوجية بين النخب الحاكمة التقليدية والمحافظة والإصلاحية في كل جانب من جوانب السياسة الإيرانية سواء الخارجية والداخلية. لقد أوضح المرشد الأعلى خامنئي، أنه لن يتسامح مع النزاعات التي تهدد استقرار إيران، ولكنه انتقد قادة إيران على الاقتتال الداخلي حول قضية جوانفكر فحسب، وليس الأزمة اقتصادية. وفي الواقع، لقد تعمد خامنئي الابتعاد عن المناقشات حول انهيار قيمة الريال، ولم يعلق مباشرة على مسؤولية أي فرع من فروع السلطة في التدهور الاقتصادي. وفي الحقيقة فإن الاقتتال الداخلي على الاقتصاد يستفيد منه – ضمنياً – خامنئي؛ فعندما يتم إلقاء اللوم علانية عبر الصحافة على نظام أحمدي نجاد (السلطة التنفيذية)، والأخوين لاريجاني (السلطتين التشريعية والقضائية)، فإنه يمكن للمرشد الأعلى – نظرياً - تجنب أي مساءلة عن السياسات الفاشلة على الرغم من أن جميع تلك السلطات الثلاث المتسببة في الكارثة تخضع له. وطالما واصل الأخوان لاريجاني توجيه أصابع الاتهام إلى الحكومة. ويرد أحمدي نجاد عليهما بنقد البرلمان والسلطة القضائية، فإن خامنئي سيكون خالياً من الشعور بالذنب. وفي الحقيقة، يعود انخفاض قيمة العملة الإيرانية وزيادة التضخم إلى مزيج معقد من العوامل. ولذلك، فإن الوضع الاقتصادي الحالي في إيران لم ينتج مباشرة بسبب العقوبات أو مجرد سوء الإدارة للحكومة فحسب، ولكن على الأرجح لكلا السببين. استخدام نظام أحمدي نجاد وغيره من فروع الدولة ككبش فداء للتدهور الاقتصادي يسهل سيطرة خامنئي على السلطة بالكامل تحضيراً للانتخابات الرئاسية في يونيو 2013.
الصحافة الإيرانية المستقلة
هي من يعاني حقا من العقوبات
ومع ارتفاع سعر الورق أكثر من 200%، تكون العقوبات الغربية قد أثرت حقاً على الناشرين المستقلين. كلام نشرت خبراً بعنوان (مائة ناشر مستقل أغلقوا دورهم). وشرحت بالتفصيل نضال صناعة النشر في ظل العقوبات. لقد ارتفع سعر الورق من فئة 70 غراماً أكثر من 210% في أقل من شهرين، ما تسبب في إغلاق 100 ناشر لدورِهم في العام الماضي. جميع قطاعات الاقتصاد تكافح، ولكن الخاصة الفريدة للناشرين المستقلين هي أنهم لا يحصلون على أي تمويل من الحكومة أو القطاع الخاص، ولذلك يتمتعون بحرية نسبية. تتلقى وسائل الإعلام المؤيدة لنظام أحمدي نجاد مساعدة مالية من الحكومة، بينما تتلقى تلك التي ترتبط بالمرشد الأعلى وجماعات الضغط الدينية الأخرى تمويلاً من شبكات دينية خاصة، ولذلك فإن الصحافة المستقلة هي التي تعاني أكثر في ظل العقوبات. ويبدو أن أحد أهم الآثار السلبية للعقوبات الغربية هو تأثيره على قدرة الناشرين المستقلين على الطباعة، ما يؤدي بالتالي إلى الحد من نشر الفكر الإصلاحي. ولذلك، فإن العقوبات تقدم – وهنا تكمن المفارقة - في الواقع مساعدة للنخبة الحاكمة المتشددة الحالية من خلال القضاء بنجاح على الصحافة المستقلة التي تؤيد وتنشر عادة الفكر الإصلاحي.
انتهت المقالة
(4) علي أكبر جوانفكر: مواطن إيراني من مواليد 12 يونيو 1959. وهو مستشار الرئيس نجاد لشؤون الإعلام وأصبح اعتباراً من 19 ديسمبر 2010، رئيساً لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية (إيرنا) التي عمل فيها بعد تخرجه من الجامعة وترقى بجدارة ليصبح رئيسها. وحكمت محكمة في 20 نوفمبر 2011، على جوانفكر بالسجن لمدة عام ومنعه من النشر الصحافي لمدة ثلاث سنوات بتهمة سماحه بنشر (مواد تتعارض مع الشريعة الإسلامية، والتشكيك في الزي النسائي الإلزامي في الجمهورية الإسلامية). وتم تقديم جوانفكر للمحاكمة بعدما سمح بنشر سلسلة من المقالات على موقع إيرنا السيبري حول الشادور، أي الحجاب التقليدي الأسود الذي ترتديه المرأة الإيرانية من الرأس حتى أخمص القدمين والمشابه للعباءة. وفي إحدى المقالات، انتقد كاتب المقالات وهو مستشار أحمدي نجاد السابق، مهدي كلهور، (اللون الأسود للشادور الإيراني، وزعم أنه لم ينبع من الثقافة الفارسية بل تم استيراده من الغرب). استأنف جوانفكر الحكم ولكنه خسر الاستئناف.
وقبل المحاكمة، تمت مهاجمة مكتب جوانفكر في طهران وتكبيل يديه بالكلبشات مع استخد ام الغاز المسيل للدموع ضد زملائه في العمل. كما ألقي القبض على 32 شخصاً آخرين على الأقل. ولكن أفرج عنه في وقت لاحق. وفي تصريح لـ إيرنا اشتكى جوانفكر: (لقد اعتقلوا بعض مراسلينا وأخذوهم إلى مكان نجهله وضربوا أحد زملائي بهراوة كهربائية. لقد أصيب بعضنا بجروح وتعرضنا جميعاً لصدمة نفسية. أنا في منصب وزير في الحكومة ومستشار للرئيس... ولو كانوا قد استدعوني للتحقيق لذهبت بسلام لأنه لم تكن هناك حاجة لهذا النوع من الإجراءات).
كان اعتقاله يبدو ظاهرياً كنتيجة لقرار النيابة محاكمته، ولكن وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، كان انتقاماً من خصوم نجاد (الأخوين لاريجاني) لما ورد في مقابلة لجوانفكر مع صحيفة «اعتماد» الإصلاحية، حيث استخف بمعارضي نجاد ووصفهم بالمتطرفين. ورداً على أحد الأسئلة قال (بخصوص الصراع على السلطة، فإن الرئيس أحمدي نجاد يعمل لخدمة الشعب وليس لمصلحته كما يفعل بعض منتقديه المتطرفين في البرلمان والقضاء وسيبقى حتى النهاية، لا بل حتى الاستشهاد لو تطلب الأمر ذلك). وصدر أمر قضائي بغلق صحيفة «اعتماد» على الفور لمدة شهرين بتهمة نشر أكاذيب وشتائم للمسؤولين في السلطتين التشريعية والقضائية.
ويعتبر جوانفكر واحداً من العشرات من أنصار الرئيس محمود أحمدي نجاد الذين استهدفوا من قبل المعارضين المتطرفين، ولكنه وقف بصلابة خلف محمود أحمدي نجاد خلال الصراع الرهيب على السلطة بين الرئيس وخصومه الأكثر تشدداً منه. ووفقاً لوكالة الـ أسوشييتد برس، فإن سجنه هو جزء من الصراع الداخلي على السلطة للتأثير على الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وبعد السجن عاد جوانفكر لعمله كمستشار الرئيس لشؤون الصحافة وعاد لرئاسة إيرنا. وترشح جوانفكر للانتخابات الرئاسية في عام 2013، ولكنه انسحب قبل التصويت وأعلن تأييده للمرشح رحيم مشائي صهر نجاد والمدعوم منه.