الشاعر الفذ المبدع الراحل عبدالله باهيثم، كتب في رثائه للأمير فيصل بن فهد كلاماً، سكن الذاكرة ولم يبرحها إلى الآن، فقال عدت ذات ليلة إلى مجلة اقرأ حيث كنت أكتب، فوجدت رئيس تحريرها الدكتور عبدالله مناع ينتظرني، ويواجهني بسؤال غريب عجيب، قائلاً:
- ماذا كتبت، وماذا تكتبُ به..؟!
فأخرجت له قلماً جافاً من جيبي بقيمة ريال، وقلت له:
- أكتبُ بهذا... وما كتبته منشور عندكـ..!
نظر إلي متفحصاً، وقال ضاحكاً:
- أنت تكتبُ بمسمار ولا تكتبُ بقلم.. وإذا فيكـ شجاعة، خذ تذكرة سفر إلى الرياض، واذهبُ لمقابلة الأمير فيصل بن فهد، وأخبره بما كتبت، وماذا تكتبُ به..؟
الدكتور عبدالله مناع، كان مؤمناً بموهبة الشاعر الصديق عبدالله باهيثم وشجاعته وصدقه، وشهد بعد موته أن الشاعر الذي عانى من الفقر والهموم الثقافية والجحود، مات منتحراً..
يقول عبدالله باهيثم في مقاله، سافرت إلى الرياض وفي الصباح الباكر مع دخول الموظفين، كنت في مكتب الأمير وطلبت من مدير مكتبه موعداً بناءً على طلبه، ولكني فوجئت بوضعي في غرفة جانبية، ظللت أدخن وأقرأ الصحف وأشرب شاهي فيها حتى حان موعد صلاة الظهر، ولم يسمح لي بمقابلة الأمير رغم ترددي وإلحاحي حتى خشيت أن في الأمر شيئاً، ولما بلغت الساعة الثانية جاء مدير مكتبه وقد بلغ مني التعب والقلق مبلغاً كبيراً، وقال لي:
- الأمير ينتظركـ..
يقول باهيثم: دخلت على الأمير الذي كان طويلاً ومهيباً وله سلطة وسطوة، وقيل إنه يعامل الكتاب المتجاوزين بقسوة، وحينها كان يشرف على الشئون الثقافية قبل ما يعهد بمسؤوليتها إلى وزارة الثقافة والإعلام، فوجدت الأمير واقفاً خلف مكتبه وبيده تلفون ويحادث آخر في الجهة الآخرى، ويقول له:
- هي لكـ.. هي لكـ.. يا شيخ!
وحينما انتهى كلام الأمير مع محدثه الذي لا أعرفه يقول باهيثم، التفت إلي الأمير بغضب شديد، جعلني أتحسس جسدي، وقد ركبتني الوساوس والخوف، وكأنه شاهدني لأول وهلة، وقال لي:
- اقلب وجهك.. ولا تعودها!
خرجت من مكتب الأمير لا أدري ماذا كتبت، ولا لماذا استدعاني، ولا لماذا طردني؟، ولكني عرفت أن الرجل الذي كان على الطرف الآخر، يتشفع لي هو الأديب الكبير الأستاذ محمد حسين زيدان. ورحل الأمير وبقيت أنا..
هكذا ينهي سطوره الشاعر الكبير الذي ظلم حياً وميتاً، وجعلني أتذكره وأتأمل حروفه الصادقة الآن، وفي فمي سؤال يتردد:
- أين كنا.. وأين نحن الآن؟
رحم الله الجميع الأمير فيصل والأستاذ زيدان والمبدع الشاعر باهيثم، سنموت جميعاً ويبقى الصدق مع النفس والوطن. وقد يطرحُ عن سؤال ما السبب الذي كان شرارة هذه التجربة القاسية، وقد قيل حينها إنه بسبب مقال أسيء تأويله، وتم نقله وإساءة تأويله للأمير فيصل بن فهد، ولنا أن نتأمل موقف الأطراف الثلاثة -رحمهم الله جميعاً-، موقف أيضاً يظل في الذاكرة طويلاً، فقد كانت جدة الجميلة لا تطيب لي إلا في حضرة الإنسان البسيط والشاعر الفذ المثقف الغريب الأطوار، والشفاف حد الوجع عبدالله باهيثم، وكنا نكتبُ معاً في (روافد) بعد ما جمع بيننا بالحلال الصديق الجميل عبدالعزيز الخزام، نحن صعاليكـ الكتابة وشملنا بمحبته، وكان عبدالله باهيثم يتصل بي ليبث لي وجعه وهمومه وفشله وحنقه وطموحه، كان ترسانة من الوجع والهموم، يجبركـ أن تصغي له وتتعاطف مع شاعر موجوع، كان يبث شعره ووجعه وسخريته في آن، له أفكار غريبة ولكنه صادق وشفاف وحر كما يليق بعصافير التغريد، وشاعر صعلوك يبحث عن فسحة صغيره لخلق عوالمه المجنونة، ويأتي منها على سبيل المثال والتوثيق، قصة إقدامه على خطف وإغراء الشاعر العراقي الكبير (عبدالوهاب البياتي) على ما فيها من مغامرة غير محسوبة النهايات من مرافقه الأستاذ عبدالله الشهيل رئيس الأندية الأدبية حينها، والذهاب به إلى بيت فائز آبا، وضياع موعد أمسية شعرية له في نادي جدة الأدبي، لأن قناعة باهيثم أن المكان الجديد هو الذي يليق بالثقافة والمثقفين وبشاعر كبير كعبدالوهاب البياتي، يجب أن يرى الناس والمثقفين على حقيقتهم من الداخل وليس على المنابر، شكواه في أيامه الأخيرة كان يبثها بمرارة، ولا أستبعد شهادة الدكتور عبدالله في النهاية التي صاحبت رحيله، ونحن نشهد من يتصدى لمهمة توثيق مصائر حياته.
وقد علمت أن الشاعرين ياسر حجازي وعبدالهادي الشهري أنجزا بإخلاص ودقة ووفاء مهمة جمع قصائده، وهنا نموذج من شكواه الأخيرة في رسالة إلى الشاعر الأستاذ/ سعد الحميدين:
يا صاحبي، وأخي وحبيبي أبو نايف/ سعد:
هل علمت بما حصل (على نحو فجائي؟) أكيد أبلغك عبدالعزيز .. لم أعد أمشي يا سعد ..
وقعت أرضاً ووجهي بعد أن خرجت وحدي .. وأغمي عليّ.. فقدت توازني لأنه لم يكن هناك من يساعدني.. كان هذا أمام مقر عملي.. وسالت مني دماء غزيرة إثر تمزق في الوجه والشفتين.. وأنقذني الزملاء..
لم أعد أمشي يا سعد وحدي..
مجرد المحاولة معناه سقوط ودم وإغماء وأمام أولادي ..
المرة الثانية كانت وسط البلد.. وأولادي يا أبو نايف جن جنونهم عندما شاهدوا الدماء وتمزق الوجه .. ولم أكن أتحرك.
الآن صرت أمرّ بحالة من الرعب لاسيما بعد إصابة فايز أبا في القاهرة.
أولادي يا بونايف خصوصاً (البنات) ليس لهم أحد سواكم.. وهم في ذمتكم يا سعد فلا تتخلوا عنهم.. عسى أن يحميكم الله ويبعد عنكم كل مكروه ..