تقتضي طبيعة الدرس الأكاديمي أن يتخصص الطالب في فن معين، ثم يواصل دراسته العليا في فرع من هذا التخصص، يكتب فيه بحثًا من شروطه أن يكون محدّدًا ودقيقًا، في إطار دراسته التي تخصص فيها، ولأجل هذا كان أكثر البحوث الأكاديمية، بناء على هذا الأصل، منحصرًا في تخصص واحد، مادةً، وهدفًا، ونتيجة، لا يستقي إلا من مصادر تخصصه، ولا يوازن إلا بين مدارسه، ومناهج علمائه، وطبقات عصوره.
لقد أصبح احترام التخصص في بعض الجامعات قيدًا يمنع من الانطلاق، وسجنًا يقوقع البحث في فرع لا يجاوزه، وفهم فهمًا غاب عنه النظر إلى المقاصد، فآل بمضي الزمن، ونمطية البحث، واتحاد المنهج، وتشابه التناول، إلى تكرار واجترار، وإلى نتائج تفتقر إلى الأصالة، أو إلى الأهمية، أو إليهما معًا، ففات المقصود، وضاعت الجهود.
ولو استعرضنا قائمة الرسائل العلمية في بعض جامعاتنا لوجدنا الدليل على هذه الدعوى، فالبحوث التي استعين فيها بتخصصات أخرى، لا تقارن بأحدية التخصص، مع أن منهج البحث في العلوم الإنسانية واحد، وحري بالعلوم أن يكمل بعضها بعضًا، وأن ينطلق الباحث إلى معارف شتى، يستفيد بعضها من بعض، ويكوِّن التكامل فيما بينها نتيجة متميزة أصالة وأهمية وجدَّة.
وغير خاف على المشتغلين بالعلم حال العلماء السابقين، الذين يصدق على أكثرهم وصف (الموسوعية)، ومن أثر موسوعيتهم وجدنا تراثًا مكتنزًا متماسكًا، يُبنى بعضه على بعض، لا ينفك تخصص عن آخر، خصوصًا إذا سلَّمنا بأن العلوم الإسلامية نشأت حول القرآن الكريم، ودارت في فلكه، ومن ذلك علم العربية، النحو والتصريف، الذي نشأ خدمة النص القرآني، وركب في مراحل درسه أطباقًا من التطور، استفاد في كل طبق من علوم العصر المصاحبة، حتى استقام على بنائه الذي وصل إلينا، وسيظل هذا البناء بحاجة إلى التفاعل مع الزمن والمجتمع، ليبقى خالدًا على مر الدهر.
لقد تخطى الدكتور سعد بن عبدالله المحمود ما أوهم من قيود التخصص، وبحث في رسالته للدكتوراه، مع مشرفه العلم الكبير أ.د. إبراهيم الشمسان، أثر الروافد الثقافية في التنظير النحوي، فأضاف إلى المكتبة النحوية رصيدًا من المعرفة، لم يقتصر فيه على أثر علم واحد، ككثير من الدراسات التي سبقته، كعلم الفقه، أو التفسير والقراءات، أو الأصول، أو البلاغة، أو المنطق.. بل نظر نظرة أوسع، شملت ((المخزون العلمي والمعرفي المكون لثقافة النحوي من غير أصول علم النحو وأركانه))، فعالجت قضايا في الأصول النحوية، والمصطلح، والقاعدة، ومناهج التأليف... وتوصلت الدراسة إلى نتائج رصدت أثر الحياة الاجتماعية والسياسية على الأمثلة النحوية وتوجيهها، وعلى إيضاح القاعدة وتقريبها، فضلاً عن الأثر المذهبي، الفقهي أو العقدي الذي ظهر أثره جليًّا في أكثر من جانب.
جاءت مصادر هذه الدراسة متنوعة، موزَّعة على الفنون التي كانت روافد للبناء النحوي، إلا أنَّها، في نظري، لم تكن، عددًا، وأصالةً، متناسبة وأهمية تلك الروافد، فكان حريًّا بالبحث أن يجعل تلك العلوم وعلم النحو بمنزلة واحدة في اختيار المصادر والاطلاع على المراجع، ولعل منهجًا حازمًا دقيقًا في الاختصار، أدَّاه إلى ذلك، كما أنَّ الباحث لم يستقص الدراسات السابقة، فغفل عن دراسات مهمة في هذا الباب، مع أنهَّ جهده البحثي وصل إلى ما هو أخفى وأبعد منالاً.
لقد عنيتُ بالدراسات المشتركة بين النحو وعلوم الشريعة، منذ مطلع دراستي العليا، وكنت ممن أوصى بالعناية بهذا، من حيث البحث والتأليف والتدريس، وجاءت هذه الدراسة فكانت جزءًا من هدف كنت أرجو أن يتحقق، وصارت لبنة في هذا المجال، ومرجعًا أساسًا من مراجعه.
وإني لآمل أن تحظى هذا الدراسة بالنشر اللائق بها، وبمكانتها، وبالجهد المبذول فيها، وإني لأتحسر على دراسات جادة، بقيت محدودة الاطلاع، حبيسة الخزائن، وربما درس الموضوع مرة أخرى، لأنَّ البحث الرائد غاب عن نظر الباحثين، وصار في طي المنسي أو المسكوت عنه.