عالمياً تحتل الموسيقى مكانة عالية جداً في ثقافات الشعوب وتاريخها، وتشاركهم أفراحهم وأتراحهم. لكن لماذا كان الإنسان منذ القدم يلجأ إلى الموسيقى لمساعدته في التغلب على مصاعب الحياة، أو في جلب السعادة له ولمن حوله، كما كان ولا يزال يستعين بها على رفع مستوى قدراته على الإبداع، ومقاومة الملل والإجهاد؟
كثير من المؤلفات والتحليلات والآراء والانطباعات قيلت عن هذا الشريك المهم لمشاعر الإنسان، والمحفز له في استمرارية الحياة، وتصاعد ثقافته وتراكماته الحضارية؛ لكن ما لم يتناول كثيراً، هو ما يتعلّق بكيفية إحداثها هذا الأثر الكبير في حياة الإنسان، ومواضع التأثير في أنظمة جسم الإنسان وروحه. أي أن الأمر فيه بعض الغموض طيلة تلك الحقب التي مرت من تاريخ الإنسان؛ إذ لم يكن البشر يعرفون تماماً، إن كانت الموسيقى تؤثّر في حالة الإنسان النفسية بخلق جو مهيئ لراحته، أو محققاً لعزائه من بعض مآسيه، أم أنها تصنع شيئاً بيولوجياً مباشراً في جسد الإنسان.
وقد شعرت الجماعات البشرية منذ الأزل بشيء من الراحة، وهي تتمايل مع المقطوعات الموسيقية التي تنشئها، وتستخدمها في مواقف مختلفة. كما كانت ملاحظة الأطفال الصغار وهم يتجاوبون لا شعورياً مع بعض الأنغام، التي تحركهم وتصنع إيقاعاً داخلياً في أنظمتهم العصبية. وبالأسلوب نفسه لاحظ الناس منذ عصور تكوّن المجتمعات الأولى أن الإيقاع الموسيقي لبعض الأهازيج تشجع على العمل وتناغمه والحماس فيه، كما تشعل أوار الشجاعة في الحروب والمنافسات الرياضية. ولذلك كانت تصحب الجيوش النظامية أعداد كبيرة من الآلات الموسيقية، التي تؤدي إلى تهييج الجنود، وتقنعهم بأنهم يحاربون لقضية، وأن هناك من يدعمهم من خلف الكواليس. وبالقدر نفسه كانت الرياضات التنافسية، وخاصة الجماعية منها تعتمد على اشتغال تلك الدوافع، التي يتحمس من خلالها بعض المتنافسين، ليحققوا انتصاراً ما كان سيحصل دون تحفيز. كما أصبحت المعزوفات الجماهيرية مطلباً رئيساً في كثير من المباريات الكبيرة والحاسمة، خاصة إذا كانت تمثّل فرقاً وطنية يتجاوز التشجيع فيها مجموعة المشتركين في اللعبة إلى الرمز القومي، والعلم الوطني الذي يمثّله ذلك الفريق.
بل إن مجالات أخرى أصبحت تتنافس على استقطاب الموسيقى، مثل تعليم اللغات، أو علاج المرضى، وخاصة في أجنحة النقاهة والاستجمام بعد العمليات الجراحية. فقد سعت بعض مراكز تعليم اللغات الأجنبية من أجل زيادة الإقبال على تعلّم اللغة الأجنبية، وعدم الملل من مداومة التدرّب على أساليبها، إلى بث خلفيات موسيقية هادئة تبعث على التركيز والتقليل من حدة التوتر بغرض رفع مستوى التعلم في تلك المراكز. كما سعت بعض المستشفيات إلى اختيار مقطوعات موسيقية مختارة بعناية لتحفيز الأنظمة العصبية لدى الإنسان، ورفع مستوى القدرة على مقاومة المرض من خلال الإحساس بالقوة الذاتية.
أما المكتشفات الحديثة بهذا الشأن، فتتمثّل في أن العلماء توصلوا إلى أن الموسيقى لها دور يمكن أن يوصف «بالمخدرات الطبيعية»، لأن الجسم البشري عند تفاعله معها، لا يتوقف ذلك الأمر على التكيف مع بيئة حاضنة للحالة النفسية؛ بل يتعدى ذلك إلى التفاعل البيولوجي المباشر مع الموسيقى عند تلقيها. فيفرز الدماغ هرمون الدوبامين بوفرة تؤدي بالإنسان إلى الوصول إلى حالة السعادة؛ وهي بالمناسبة العملية التي تجري بوضع مشابه عند تناول المرء للمخدرات المحظورة. ولأن المتعاطين لتلك المخدرات يهدفون إلى الحصول على هذه الحالة التي يرتفع فيها مستوى الدوبامين، وتتحقق من خلالها سعادة مصاحبة، فقد سمّى العلماء الموسيقى بالمخدرات الطبيعية. وأظن ذلك هو الوازع لمقولة الإمام الغزالي عن الموسيقى: «من لم يطربه الربيع وأزهاره ولا العود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج»!