خلال زيارتي للبحرين بدعوة من وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة بمناسبة الاحتفال بمرور أربعين عامًا على الفن التشكيلي البحريني لم أترك فرصة من الوقت إلا وقمت فيها بزيارة لجاليري (صالة عرض) أو مؤسسة فنيَّة أو مرسم من مراسم لأحد التشكيليين وكان من بين تلك المؤسسات جمعية البحرين للفنون التشكيلية برفقة رئيسها الزميل الفنان علي المحميد، وكان من حسن حظي أن التقي بالفنان البحريني عباس يوسف الذي يقيم له معرضًا في صالة الجمعية، ومع أني لم أكن أعرف عن الفنان عباس إلا القليل إلا أن مشاهدتي للمعرض وقراءتي لما أبدعه في وصفه الكاتب حسين المحروس التي تضمنها إصدار المعرض حول تجربة الفنان عباس كانت بمثابة المفاتيح للغوص في أعماق تلك الأعمال التي جملت الصالة وزادتها تالقًا.
الخط الكوفي السهل الممتنع
كنت وغيري ممن يتابعون الإبداعات في الخط العربي القديمة والأصيلة منها أو ما تبعه من تطوير، ومجارات لحداثة الفنون، نعتقد أن الخط الكوفي يُعدُّ أسهل الخطوط كونه يعتمد على الايقاع الهندسي المحدّد، عكس ما تعتمد عليه الخطوط الأخرى من أسس وقيم ومقوِّمات، لا يعرف تفاصيلها إلا من تخصص في الخط العربي وأتقنه.
إلا أن زيارتي لمعرض الفنان عباس يوسف جعلتني أعيد النظر في فهمي لهذا النوع من الخطوط، فاكتشفت أنّه عريق ومتشعب وله أنواع وأنماط يمكن أن اختصر ذكر بعضها وعن تاريخ الخط الكوفي على النحو التالي:
بدأ استخدام الخط الكوفي قبل نحو 100 عام انطلاقًا من الحيرة استخدم في كتابة المصحف بشكل خاص. حيث نسخت غالبية المصاحف قبل القرن الرابع الهجري بالخط الكوفي، ولم يتوقف استخدامه عن الكتابة على الورق بل أصبح جزءًا من الزخرفة، وللخط الكوفي أكثر من 30 نوعًا، منها:
الكوفي المائل، الكوفي المزهّر، الكوفي المعقّد، الكوفي المورّق، الكوفي المنحصر، الكوفي المعشّق، الكوفي المضفّر، الكوفي الموشّح، الكوفي المشجّر، الكوفي المحرّر، الكوفي المربّع، الكوفي المدوّر، الكوفي المتداخل.. الكوفي المنشعب.. الكوفي الشطرنجي، الكوفي الفاطمي، الكوفي المشرقي، الكوفي المغربي.
الفنان عباس والنقطة المربعة
في تعليق من الفنان عباس يوسف على معرضه أشار إلى أن هذه النتائج من الأعمال جاءت نتيجة اشتغاله وتجاربه، بدأ بالخربشات التي اتخذت سياقًا مختلفًا عمَّا سبق من تجاربه في مجال الحروفية العربيَّة، ذهبت به إلى التخطيط بالخط الكوفي المربع الذي يعتمد على الهندسة؛ هندسة النقطة المربعة تحديدًا.
وقد وجد نفسه كما يقول منساقًا إلى تنفيذ العديد من الأعمال بهذا الاتجاه، أبدع فيها أكثر من خمسين تخطيطًا، مشيرًا في أحاديثه حول المعرض إلى الأستاذ عبدالإله عرب باعتباره أستاذه.
عرض الفنان عباس في معرضه مجموعة متميزة من اللوحات بالخط الكوفي تنوعت موضوعاتها بين آيات قرآنية، وحكم، وأشعار تاركًا للحظة التي يقف فيها أمام المعلم قبل تنفيذه حرية اختيار الموضوع، دون سابق إعداد وذلك عودًا إلى مختزله الأدبي والثقافي وبحكم دراسة الفنان يوسف للغة العربيَّة وأدبها، كما اختار الكثير من النصوص لأسماء مهمة في الفكر والأدب والشعر، منها نصوص المتصوف النفري، والشعراء قاسم حداد، والماغوط ونزار قباني، ومحمود درويش وجلال الدين الرومي.. كانت بها تلك اللوحات غنية بالإبداع في تشكيلها وجمال صياغتها فنيًّا وموضوعًا تجعل المشاهد يقف كثيرًا لقراءتها والبحث عن بداية الآية أو القصيدة ونهايتها.
أما عن الألوان فقد أشار في أحاديثه إلى أنها تعبير عن الاحتفاء بالحياة، بجمالها، بهذا البلد الجميل، الذي علينا أن نحتفي به كما نحتفي بحياتنا اليومية».
لوحات تتوالد وتتعدد والهدف واحد
يقول عنه حسين المحروس عندما شاهد صديقي المصمم الفنّي محمد ناصر، التخطيطات الأولية للوحات «مربع الكوفي» للفنان الصديق عباس يوسف، قال: «في البدء حدثتني نفسي بأنّ هذه اللوحات يسيرة جدًا، فهي جمل ومربعات، وأنني استطيع فعل ذلك. لكن وبعد تقليب كثير في اللوحات وجدت أن كل شيء محسوب بقدر لا أقوى عليه، وأنه لا يجيد ذلك إلا مَنْ ألف الخطّ العربي طويلاً.
ثقافة وممارسة
الحدث الثاني على طاولة عباس يوسف، الذي لن يحصر عن الجالس معه شيئًا، وسوف يحدثه حتى عن أثر حضوره في مزاجه وفي مزاج لوحاته - حين رأيت لوحة الكوفي المربع الواحدة تتوالد وتنقسم وتتعدد وتتقلب حروفها، وتتداخل، ثمَّ تتفكك وتنفكّ عن بعضها البعض، وتتمدّد أطوالها وتمتدّ وتقصر وتطول، فلم تستكن واحدة من هذه اللوحات حتَّى لحظة طباعتها.
سألته: «متى تهدأ هذه الحروف؟ فيرد: لا أعرف. يقول أشياء كثيرة فأغيب عنه، ثمَّ فجأة يقول: «هذه اللوحة فيها شغل يا صديقي». وهذا يعني أنّها لن تهدأ سريعًا. يتصل بي ليخبرني أن لوحة ما قد صارت لوحات، وأنّ على الحضور لمشاهدة المواليد الجديدة.
هل هذا هو الكوفي المربع فعلاً، الذي ظهر ونشأ في كوفة العراق؟ فالمربع ذو الأضلاع الأربعة المتساوية هو عماد هذا الخطّ ومنه جاءت التسمية، لكنّ هذه
الاحتمالات غير الحصرية في تشكله تتجاوز مفهوم المربع المحصور نفسه.
من حديث المصمم محمد ناصر وفي حضرة عباس يوسف، تبيّن لي أن المربع الكوفي ليس مربعًا. وأن حركة الحرف فيه مفتوحة على المساحة وعلى دفقات الخطّاط. فكل امتداد أو ارتداد هو الحركة حركة الحرف نفسه في نفس الخطّاط، وهو حركة تنفسه أيضًا. وأنّ كل شيء فيه مفتوح على خاطر الفنان ولحظات الخلق فيه. خذ لوحاتك يا صديقي فالانقسام الحيّ فيها لا يهدأ، وأنها ليست مربعة.
عباس يوسف وثقافة الإبداع
ليس جديدًا أن نرى مثل هذا العمل في تاريخ الخط العربي منذ الأزل، لكننا اليوم نراه بطعم ونكهة خاصة، خصوصًا في هذا الزمن الذي تبعثرت فيه الفنون وضاعت هويتها ولم نعد نرى شيئًا يربطنا بثقافتنا وتراثنا بقدر ما نرى هروبًا منها إلى لا شيء، إلى عالم افتراضي لا تاريخ ولا أصل ولا مرجعية له، عالم طاله التشويه الذي حلّ بالعالم عامة والعالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص عالم الحروب والنزاعات والطائفية، فامتدت هذه المؤثِّرات التي اخترعها الغرب لتصل إلى الفكر والثقافة والفنون وتطال الجمال وتسعى للقضاء عليه.
فكان لمعرض الفنان عباس يوسف ما اعادنا إلى واقع وحقيقة ما يجب أن نتمسك به، واقع ثقافتنا الأصيلة بكلِّ تفاصيلها، فما يقوم به من إعادة صياغة مثل هذا الفن مع ما يقوم به أمثاله ممن لا زالوا متمسكين بإرثهم الثقافي المنطلق من قيم ومبادئ راسخة، هم من يحملون الأمانة ويئدونها على أصولها، ليتسلمها جيل قادم لا زال نظيفًا طاهرًا من دنس العولمة.