أتيتُ إلى الدنيا في قرية صغيرة، لا تتعدى بيوتها أربعين بيتاً، هي قرية الفشخاء(1)، الواقعة غربي مدينة المجمعة بنحو كيل ونصف الكيل، ويربط بين المدينة والقرية طريق زراعي متعرج تحف به النخيل من جانبيه. وصفت قريتي وصفاً أدبيّاً في مقالة منشورة(2)، عوضت صغرها بقدمها في التاريخ؛ فقد ذكرها الحسن بن عبد الله الأصفهاني في كتابه (بلاد العرب) باسم القلعة، وحدد مكانها. ويرجع هذا الذكر إلى القرن الثالث الهجري، وربما كان تاريخها أقدم من ذلك؛ لأن الأصفهاني ينقل من كتب لمؤلفين قبله.
كانت قديما محاطة بسور محكم يبلغ سمكه من الجهة الجنوبية أكثر من متر، وله بوابتان كبيرتان من الجنوب والشمال، والبوابة الجنوبية تسمى باب البر؛ لأنها تفضي فعلاً إلى البر حيث لا نخيل. وكان السور مزوداً بمقصورات للحراسة والدفاع عن القرية يوم كان للأسوار والمقاصير أثر في حماية البلدان، أدركت منها مقصورتين تقعان في السور الجنوبي في شرقه وغربه.
في القرية مسجد واحد تقام فيه الصلوات الخمس، ويتكون من خلوة تتسع لصفين أو ثلاثة، وسرحة تتسع لصف واحد، وفضاء من الأرض مكشوف يتسع لصفين. أما صلاة الجمعة فيؤدونها في المسجد الطيني القديم الواقع في المجلس (السوق) في المجمعة، يذهبون إليها مبكرين مشياً على أقدامهم؛ حتى يدركوا فضل التبكير للصلاة.
من السهل أن يعرف المرء مسقط رأسه، ولكن من الصعب أن يعرف تاريخ ولادته في بيئة نجد منذ سبعين أو ستين عاماً؛ فكان زمن ولادة الناس يؤرخ بالأحداث الكبرى المعروفة، من معركة، أو غزوة، أو عام ربيع، أو سنة جدب، أو وباء عام، فيقال مثلاً: فلان ولد سنة المليداء (1308هـ)، أو سنة الصريف (1318هـ)، أو سنة ظهور الملك عبد العزيز (1319هـ)، أو سنة ذبحة الحواشيش (1423هـ)، أو سنة روضة مهنا (1324هـ)، أو سنة مطير (1325هـ)، أو سنة جراب (1333هـ)، أو سنة الصخونة (1337هـ)، أو سنة السبلة (1347هـ)، أو سنة فضية الرويضة (1350هـ)، أو سنة الجدري (1359 هـ) أو سنة الخفيسة (1364هـ)، أو سنة الزلعاء (1367هـ). وبعض هذه الأحداث خاص بالمجمعة، وقد يؤرخ لميلاد أحدهم قبل أحد هذه الأحداث أو بعده بسنة أو سنتين أو ثلاث.
لا أعرف اليوم ولا الشهر ولا العام الذي أبصرت فيه الدنيا، فتقييد تاريخ الميلاد لم يكن معروفاً في القرية البتة، ولكن عندما طلب منا معهد المجمعة العلمي عام 1381هـ/ 1961م حفيظة نفوس، راجعتُ مكتب الحفائظ والجوازات في المجمعة فردوني لصغر سني، وأتيت المكتب بعد عام، وقد ارتديت ملابس كثيرة ثقيلة لتزيد في حجم الجسم، وكان الفصل شتاءً في وقت المربعانية يسمح بارتداء مزيد من اللباس، فمنحتُ الحفيظة في 23-7-1382هـ، الموافق يوم الخميس 20كانون الأول ديسمبر عام 1962م، ودون تاريخ ميلادي عام 1364هـ. وأخبرني بعد مدة طويلة عمي الأصغر أحمد - رحمه الله - المشهود له بقوة الذاكرة أنني ولدتُ سنة الخفيسة، وسنتها معروفة عند أهل الفشخاء وبلدة المجمعة، وهي عام ربيع مزدهر، ازدانت فيه روضة الخفيسة التي ينتهي إليها سيل وادي المشقر بربيع لم ير الناس مثله، فزع إليها الحشاشون بمحاشهم (مناجلهم) ومقاشعهم ومجادلهم في ربيع عام 1364هـ/ 1945م، وحشوا من العشب ما ملأوا به صفافهم، وكان الرائي يشاهد الإبل وهي تتقاطر تحمل العشب طريّاً وجافاً؛ ليخزن في الصفاف، وكانت مخصصة لحفظه. وإذ فتح بابها عبق المكان برائحة النفل والحوذان والخزامى والعرفج وما شئت من طيوب رياض نجد. وأضاف عمي أنني ولدتُ في وقت الصفري ، وهو الوقت الذي يعقب صرام النخل مباشرة. والصفري في لغة العرب وقت صرام النخل، وتولي الحرّ، وإقبال البرد (تاج العروس: صفر). ويوافق صفري عام 1364هـ شهر ذي القعدة، الموافق لشهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1945م، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بنحو شهرين باستسلام اليابان للحلفاء ومثَّلهم في التوقيع على وثيقة الاستسلام الجنرال الأمريكي ماك آرثر.
يقع منزلنا في سكة الجُدَيِّدَة بالتصغير وواجهته شرقية، وله باب كبير من جذوع النخل يسع دخول الجمل، تلج منه فتقابل وجهك القهوة مجلس الرجال، وتصل إليها عبر دهليز صغير غير مسقوف، وتنزل إلى القهوة عبر درجتين أو ثلاث، وهي واسعة بمقياس ذلك الزمان، ولها باب آخر صغير في واجهتها الغربية يفضي إلى بطن البيت (الصالة)، ويغلق إذا كان في القهوة ضيوف، والوجار والأباريق والدلال والبيالات والفناجيل تقع كلها في زاويتها الشمالية الغربية، وسقفها من جذوع النخيل وخشب بابها من الأثل، وعند ما تلج من باب الشارع فعلى يمينك حوش أو قوع رأيت فيه مرة ثلاثاً من النياق؛ فقد كان أبي صاحب إبل، يعرف شياتها وطباعها وأصيلها من هجينها، وفيه مربط البقرة، والغنم. ومن الطريف أن البقر والنوق، وربما سائر الأنعام لا تسخو بحليبها دائماً، فهي ذات مزاج كالإنسان؛ فالناقة تتمنع أحياناً من إدرار الحليب إلا إذا كان حوارها بجانبها، والبقرة لا تمد بسائر ما في ضرعها من حليب إلا إذا روضتها، وحككت ظهرها وجنبيها. وحينما يكون مزاج البقرة متعكراً تدعوني والدتي لأحك ظهرها، وموضع السنام من الثور وما حوله فتدر الحليب، وتسخو به ، فآتي غير راغب، وكنت أنتظر فراغها من الحليب بصبر نافد، وأتحين فرصة الخلاص، ولكنها كانت تصبرني وتستمهلني. وعرفت من طبيعة البقر أنها قد تتأبى على الحالبة الغريبة؛ فقد اشترى أحدهم من والدي بقرة حلوباً، ولما أتى بها إلى منزله، وأتت زوجته لتحلبها قمصت ونفرت فأتت والدتي، فلما رأتها هدأت وأقردت (خضعت) وحلبتها دون أن تحدث منها حركة، وفي طرف الحوش من جهة اليمين المفضى، مكان قضاء الحاجة، ثم تدلف إلى وسط البيت عبر ممر، فأمامك الدرجة (السلم)، تصعد منها إلى السطح، وعلى يسارك بطن البيت وهو مسقوف بجذوع النخل، وحينما تلجه على يمينك بيت الدرجة وهو ضيق مظلم، تختبئ فيه القطط أحياناً في النهار، وتهرب حينما ترى أحداً منا؛ فهي شبه متوحشة؛ لكثرة ما تُطارد، وكانت مؤذية، وكثيراً ما تعتدي على اللبن، فتفتح الغطاء وتشرب منه، وأحياناً تتسبب في اندلاقه، وسواء اندلق أو بقي منه شيء، فلا يمكن الشرب من لبن شرب منه قط، أو وجدناه مفتوحاً دون غطاء. فالبراصي (سام أبرص أو الوزغ) نراها على الجدران وفي السقوف، وهي مكروهة يعتقد أنها تمج ريقها المسموم في اللبن، فنتجنب لبناً رأيناه مكشوفاً، ثم على اليمين حجرة الجصة غرفة نومنا نحن الأطفال، ثم تليهاالصفة مخزن العشب والحطب. مرة أحضر والدي ضباً كبيراً من البر وانفلت منا وولج الصفة، كانت ملأى بالعشب، واختفى، وعثرنا عليه بعد ثلاثة أشهر، يكتفي بالعشب ويستغني عن الماء طوال عمره، تليها حجرة والدي ووالدتي، وكانت الحجرة صغيرة كسائر غرف منزلنا ما عدا القهوة. وإذا صعدت إلى السطح فعلى يمينك الموقد (المطبخ)، وغرفة صغيرة على يسارك، تزوجت فيها أختي الكبيرة - رحمها الله - زواجها الأول في حياة والدتي دون احتفال.
لم نكن نعرف اسم المطبخ، والموقد هو التسمية الشائعة لإعداد وجبات الطعام، وهي تسمية صحيحة، فالموقد اسم مكان لإيقاد النار، ولم تكن ثمة وسيلة للطاقة أو الوقود سوى الحطب. أما القهوة والشاي فلا يعدان في الموقد بل في القهوة، يعدهما الرجل عندما ما يأتي إليه ضيوف أو مسيرون، أو عندما يحتاج إلى ذلك. يعد الطعام في الموقد بوقود السعف والكرب والصنوخ، والشاي والقهوة يعدان بوقود الأرطى الذي يجلبه الجمالون من النفود، نفود عريق البلدان، الرغام قديماً. وبجانب الوُجَار (الوُجاق)، مكان مخصص للحطب يسمى بيت الحطب. والوُجاق: الموقد بلغة الترك، والوجار محرفة عنها. كنا نسمي السطح: الطاية، وهي كلمة عربية فصيحة. قال الزَّبيدي (تاج العروس: طوي، 38/514): «الطاية: السطح، نقله الجوهري، زاد الأزهري: الذي ينام عليه». ولها معانٍ أخرى. لم يكن في بيتنا خزائن خشبية للملابس، ولا رفوف معدنية ولا طاولات، ولا طبليات ونمليات كما عند المصريين في الصعيد، كنا نحفظ ملابسنا في السحاحير أو معلقة على المساطيح، حبال ممدودة بين جانبي الحجرة. والنوافذ عبارة عن فرَج صغيرة، وكشاف في أعلى السطح في القهوة يخرج منه دخان النار، كان الدخان يؤذي عيوننا، ويصيبها بالحرقة، فلا نزال نعركها حتى تحمر، ونخرج إلى الهواء الطلق حتى تذهب الحرقة، وكانوا يقولون: دخانها ولا هبوب شمالها. وفي جدران الحجر أوتاد من خشب يعلق فيها بعض اللوازم. كنا نغسل ملابسنا بصابون ماركة العنز، واشترى أبي منذ وقت مبكر مكواة؛ لكي الثياب، اشتراها من الرياض في إحدى رحلاته إليها، وهي من النوع الذي تضع الجمرَ في داخله. وكان إيقاد النار وإشعالها يتمان بالمنفاخ. وفي ذلك جهد يبذله معد القهوة والشاي، فجلب والدي مروحة تدار باليد يسمونها مكينة، ركبت على يسار الجالس في المكان المخصص لمعدِّ القهوة والشاي. وما عدا ذلك كنا نمارس الحياة القروية القديمة، فالفوانيس تقوم مقام الكهرباء، والماء يجلب من آبار القرية في قدور تحملها النساء فوق رؤوسهن. بعد صرام التمر وهو من نوع الخضري كان الناس يكنزونه في الجصاص مفردها جصة، وهي بناء صغير محكم يبنى في جانب من جوانب حُجَر المنزل بالحجارة والجص، ويوضع في جانبه باب صغير يتناول منه التمر باليد إذا كانت الجصة ملأى، وتَدْلِفُ منه المرأة إلى داخلها إذا كان التمر في أسفلها، وكثيراً ما ولجتُ فيها لأكل التمر. بعد وضع التمر في الجصة الذي تنقله المير من المزرعة إلى البيت في المراحل (زنابيل كبيرة جدّاً) يرص بالحجارة الثقيلة المنبسطة بعد رشه بالماء القليل، وضغطه بالفروش السميكة يجعله بمأمنٍ من التسوس، ويترك مدة شهر أو أكثر. وبفعل رص التمر مع إشرابه بماء يسير يتسرب منه الدبس، وقد وضع لخروجه فتحة أسفل الجصة، ويفضي عبر قناة جصية ضيقة إلى المدبسة، وهي غرفة صغير ة جدّاً أصغر من غرفة التفتيش مبنية بالجص، وبعد تجمع الدبس أو شيء منه فيها يغرف ويعاد صبه على التمر في الجصة حتى يتشرب الدبسَ، ومع حلول البرد يتجمد الدبس بين حبات التمر كأنه تمر العرفج، فيصبح أكله لذيذاً جدّاً.
في طفولتي المبكرة كان موضع نومي مع إخوتي في حجرة الجصة، بجانب المدبسة، وأسمع خرير الدبس في الليل وهو يصب في المدبسة، وأصحو أحياناً على لسع الجعاب القارص، ويتكاثر في الحجر التي فيها الجصاص، وكان يختار للسعه وقرصه منطقة حساسة. كان الخضري مخصصاً للجصاص؛ لأن أكثر النخيل منه، ويقولون: ما يملا الجصاص إلا الخضري: أما تمر الدقل - وهو أردأ التمر في اللغة الفصيحة - فيؤكل رطباً، يخرف من النخل في وقت الإرطاب، المنقط ثم المنصف، ثم المحلقم، ومنه الدخيني، والسلج والمكتومي، والمقفزي، والجفير، والقطار، والشقراء، والمسكاني، ونبوت السيف، والحلوة، والصِّفْرِي، والذاوي. ويصنع من المسكاني ونبوت السيف وربما المكتومي المغمي المغموس في الدبس، وطريقة إعداده يؤتى بالمنقولة، وهي وعاء كبير مستدير يصنع من الجص، أسفلها واسع، ولها فتحة في أعلاها مستديرة، يوضع فيها التمر المراد تغميته، ويصب عليه دبس كثير، ويترك حتى يتجمد الدبس بين التمر وتحته وفوقه، فتراه أصفر لذة للآكلين. سمي المغمي بهذا الاسم؛ لأنه يغم بالدبس في المنقولة.وهي تسمية عربية فصيحة، وسميت المنقولة بهذا الاسم؛ لأنها تنقل من مكان لآخر، فهي أشبه بزير الماء الكبير. وتمر المغمي ثمين نادر، ولا يتوافر إلا عند أصحاب النخيل. ولا يقدم لكل أحد؛ حتى أصحاب البيت يضنون به أحياناً على أنفسهم، ويقدمونه للضيوف المهمين جداً. وهذا يذكرني بما سبق أن قرأته في كتاب (حياتي) لأحمد أمين، من أن لديه ثلاثة أصناف من البن، صنف راقٍ يقدمه لعلية القوم أمثال طه حسين، ومصطفى عبدالرازق، وصنف متوسط يقدمه لأقاربه ومن في مستواهم، وصنف رديء يقدمه للخدم والبوابين.
والمدة بين صرام النخل وتناول التمر من الجصاص قد تكون شهراً، وأكثر من شهر، كان الناس يأكلون ما فضل من صرام النخل في العذوق من قاني حمر الخضري (الأحمر القاني) أي الشديد الحمرة والتعبير فصيح، من الذي أرطب نصفه أو ربعه أو كان محلقماً، ومن الروثان والحقي والذاوي، والصقعي، وتمر هذه الأنواع فيه جفاف وصلابة، ولا يفسد سريعاً دون كنز، وكانت عذوق الحقي تعلق في الأوتاد، أو يوضع لها حبل بين حائطي الغرفة تعلق فيه، وكنا نستطيب هذا النوع من التمر، وأحياناً يبقون كمية من تمر الخضري دون كنز، ويسمونه ( مصفارً ), ويأكلون منه حتى يحين موعد الأكل المكنوز في الجصاص. لم أكن أستسيغ تمر الخضري غير المكنوز، وأستسيغ ما عداه.
** ** **
(1) الاسم مأخوذ من فشخه إذا ضرب رأسه بيده أو صفعه، يفشخه فَشْخاً. تاج العروس (فشخ). فالفشخ معناه الضرب والكسر. وأطلق اسم الفشخاء أول مرة على أول بئر حفرت فيها، وكانوا يواجهون في حفرها حجا رة صلبة فيذيبون شحوم الإبل ويغلونها بالنار، ثم يصبونها على الحجارة التي يفشخونها بالمعاول، أي يضربونها بها ويكسرونها وللدهن المغلي خاصية في تفتيت الحجارة.
(2) نشرت في المجلة العربية، العدد 102، لشهر رجب عام 1406هـ نيسان (أبريل) 1986، ص 86- 87، ثم أضفت إليها ونشرتها في صحيفة المسائية المحتجبة، العدد 1303، الثلاثاء 15-7-1406هـ الموافق 25-3-1986م (المسائيات) الصفحة الأخيرة، ثم نشرتها في كتاب (خواطر في الفكر والثقافة واللغة والأدب) الصادر عام 1420هـ / 1999م، ص 143- 149. ولم أذكر اسم القرية في المقالة.