منذ أشهر هاتفني الشاعر الجميل محمد إبراهيم يعقوب ممتطيا صهوة الترحيب بي في جازان لحضور حفل جائزة السنوسي الشعرية في دورتها الثانية، فكان قلبي قبل لساني فرحا مسرورا به وبجازان وبالجائزة، كنت آنست في هذا الشاعر الجميل ودّا وحبا كامنا يشع من كلماته وتضيء مسامعي همساته، كان صوته شجيا يدعو بأدب الكرام، ويتودد إليك تودد هُمامٍ باهتمام، فلم أجد من كلمات السعادة ما تفي بحق هذه الدعوة سوى لبيك أيها الجميل، وسعديك أيها النبيل.
- حقائب السفر:
قبل يوم الرحلة المقرر الثلاثاء 21 يناير من عام 2014، تضمخت حقائب السفر برائحة الشوق لأرض الشعر والشعراء، جازان / الشاعرة، لملمتُ بعض حقائبي وشيئا من ذاكرة القصيم بين يديّ، حين أقلتنا قدماي إلى أرض المطار أوشكت الرحلة أن تمضي دوني ولولا القدر الذي كان بي لطيفا لعدتُ أدراجي محملا بخيبة وحزن. تسارعت الخطى والأنفاس حتى صرتُ أول الراكبين في الطائرة متسائلا: أين بقية الركاب؟ إذ كنتُ أولهم وكأن الشوق هو الذي يقودني لا قدماي، تخيرتُ مكاني في الطائرة إنه المقعد الواحد والأربعون، جلست والانتظار يطول، والمسافة في مخيلتي تطول أيضا!. لم تكن إلا لحظات حتى أخذت الطائرة محلها من السماء، وبين يديّ جرائد وصحف متنوعة أُقلّبُ بين أكفها كفيّ، ومسافر بعينيّ بين أحرف الكتاب ومقالاتهم، كانت خمسة وأربعين دقيقة إلى أنْ استقر بي الحال في مطار الملك خالد، وما هي إلا دقائق حتى تلاقت القلوب من مدن المملكة في قلب المطار، فصدفةً قابلت الشاعر الجميل د.عبدالله الوشمي، وما إن استقر بي الحال حتى كان رائحة أهل الشرقية تزفّ مقدم الصديق الشاعر محمد خضر وبصحبته الناقد الجميل محمد الحرز، خرجنا أربعة إلى بوابة الطائرة ومنها صعودا إلى الطائرة واتخذ كل واحد منا مقعده الذي خصص له.
- جازان تنتظر!
لم تكن إلا ساعتان أو أقل حتى تساوت أقدامنا في أرض جازان، في خضم هاتين الساعتين كان حديث ودّيٌ بيني وبين أحد الركاب من أهل جازان اسمه (ناصر) ملامحه الجازانية تشعّ بساطة وهدوءا، كان حديثه بلغة جميلة وواضحة محبا للأدب وأهله، يأنس بالشعر والأدب، وكأنه يقدم لي نموذجا جازانياً خاصا لا تجده في غيرها من المدن والقرى، تعرفتُ إليه وتبادلنا الأحاديث عن جازان وأهلها، وعن سبب حضوري الأول لأرض جازان / الشاعرة.
تساوت أقدامنا في أرض جازان، وكان في استقبالنا الشاعر الشاب / عبدالله عبيد، لم أكن أعرفه من قبل، شاب نشطٌ يلبس لباس أهل جازان بُنيٌ معتقٌ مطرزٌ بلون ذهبيٌ، كان عبدالله - الحائز على جائزة الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح - فرحا بشوشا بنا مرحبا بقدومنا، ركبنا سيارة نقل جامعي إلى حيث مقر الإقامة (فندق الحياة) في قلب جازان، بهو الفندق كان معطرا برائحة الشعر ثمة شعراء كثر هنا، كان في استقبالي لوحتان عن يميني لوحة مطرزة برنامج جائزة السنوسي للإبداع الشعري، وعن شمالي ترحيب بضيوف الجائزة، وقفت برهة ثم تلمست المسافات فوجدت أمامي الشاعر الكويتي دخيل الخليفة، والشاعر حسن الزهراني، والشاعر عيد الحجيلي، وغيرهم من الشعراء الشبان من شتى مناطق المملكة ومن دول خليجية. اتخذ كل واحد من ضيوف (الجائزة) مكانه في الفندق، حتى ساعة حفل الجائزة، حيث كان بهيا بحضور لافتٍ وتنظيم جميل، كانت اللحظات تقترب لتسليم الشاعر التونسي (المكّي الهمّامي) جائزة محمد السنوسي للإبداع الشعري في دورتها الثانية عن ديوانه (ذهب العزلة) كان منظرا جميلا ممتزجا بتصفيق تبارُكيٍّ وموسيقى هادئة تزف عريس الجائزة. بعدها بدأت أمسيات الشعر، بمجموعة من الشعراء، وكنت محظوظا إذ ألقيت أربعة نصوص بدءاً بقصيدتي في رثاء الشاعر الكبير محمد الثبيتي، ثم نص (رسالة إلى سيدي الحزن) فنص (قلبٌ متخثر في الوجع !) ثم ختمت بقصيدة (جمرة من صدى صوتها) شاركني في تلك الأمسية شعراء آخرون قدموا نصوصا رائعة وجميلة.
أسئلة القصيدة:
في برنامجه الثقافي حضرت ندوة واحدة لنقاد لهم باع طويل في قراءة النص الشعري الحديث، وبخاصة قصيدة النثر، حضر أ. محمد العباس، وأ. عبدالله السفر، وأ. محمد الحرز، ود عالي القرشي، وأدارها د / محمد حبيبي، كانت هذه الندوة تمثل حجر الزاوية بين الأمسيات فتلقي الآراء النقدية بدءا من مفهوم الشكل وحضوره في قصيدة النثر، ومرورا بدور الشعر وعلاقته بالإنسان وامتداد هذه العلاقة من نشأة الإنسان، هذه العلاقة التي تشكل تكوين النص الشعري منذ نشأته الأولى باعتبار أن النثر كان أصل النطق، وأن الشاعرية التي توجد في النص تنطلق منه لا من خارجه، بعيدا عن صوت الجماهير، وبعيدا عن المؤثرات الخارجية التي تشكل سلطة على النص، النص باعتباره لغة حية تمثله قصيدة النثر بحضور المجاني والهامشي واليومي في حياتنا، وعلى الرغم من الطرح الذي قدمها فرسان الندوة إلا أن أسئلة القصيدة تظل قائمة وباقية لأنها تنبع في رأيي من مكونات كثيرة سواء قرائية أو إبداعية.
- فرسان الجمال:
فرسان الجمال:
كان صباح الخميس مختلفا، فقد تجمع المدعوون لزيارة جزيرة فرسان، حيث أقلتنا (العبّارة) من ميناء جازان إلى فرسان، كانت خمسا وأربعين دقيقةً فقط، تفصل لقاءنا بأرضها، وكان البحر في ذلك الصباح هادئا وكأنه يقدم قربان الترحيب والسعادة بمقدمنا، نزلنا أرض فرسان وكان باستقبالنا رجال كرام في مقدمتهم محافظ محافظة فرسان أ . حسين بن ضيف الله الدعجاني الذي رحب بنا واستقبلنا بجميل عبارة وكريم أخلاق، ومن حوله رجال تجد الابتسامة يكتبها النسيم من رقتها، وتأنس بها الأرواح، تبدو فيها الوجوه الفرسانية هادئة الملامح، يأنس لها الناظر، ويسعد بها الخاطر. تحلقنا في مجلس الأستاذ الدعجاني، وكان لطيف العبارة، طلق اللسان، تشعر في كلماته انتماء لهذا الوطن، وتجد في عباراته لهفة وشوقا لتقديم ما لديه لكي تكون فرسان مهوى أفئدة الزائرين والسائحين، في خضم حديثه كانت فناجين القهوة بطعمها الفرساني تجول بين الشفاه، وكان الحوار شيّقا مع رجال فرسان يتقدمهم الأستاذ الشاعر الجميل إبراهيم مفتاح، الذي كان في حديثه وعباراته يحمل فرسان إلى كل العالم، إنه يحفظ من تاريخها وحوادثها وجمالها ورائحة أهلها السابقين شيئا كثيرا، رجل تشعر أن فرسان هي أمه التي ولدته وزوجته التي حضنته وابنته التي يهدهدها في مهدها، لم ترَ عينيّ رجلا مثله، فهو يكتسح كل المحيطات لتبقى فرسان خالدة في ذاكرة الإنسان، كان بيته عامرا بكل شيء بالكتاب والشعر والنقوش والأدوات القديمة التي كان يستخدمها الإنسان في فرسان، ركب معنا لنقف على ملامح قليلة من فرسان على جسرها الجميل الذي يربط بين فرسان الكبرى وأختها الصغرى، على قرية (القِصار) التي كانت بمثابة الروح القديمة التي تنفث سحرها بين الفينة والأخرى في نفوس أهل فرسان، قابلنا عند بابها أحد أهلها الذي كانت دمعاته تسبق كلماته حبا لهذه القرية، كان شاعرا، شعرتُ حينها بخيبة أمل (كيف لا ننتمي لشيء ؟). في ملامحها تاريخ لم ينسَ، في جدرانها عبقٌ من ماضٍ جميل، قرية تذكرك بروح مفقودة، وأيام معهودة. بعدها ذهبنا إلى منزل (الرفاعي) كان منزلا تراثيا عتيقا وجميلا، فيه نقوش وكتابات لآيات قرآنية وأشعار رائعة، كتب في أحد الجدران : في سنة ( 1341 هـ):
دار بها السعد بدا
والهم عنها طردا
كانت وقفة تاريخية أمام هذا المتحف الإنساني الجميل. بعدها أقلنا الأستاذ / إبراهيم مفتاح إلى بيته، وكنت سعيدا بلقاء ابنه الشاعر الجميل عبدالله، الذي أنِس بنا ورحب. بعد ذلك لم يكن الوقت لنا مسعفا فسرعان ما حان وقت العودة، والقلب ما زال لها مشوقا، والنفس إليها تواقة، ولعل الله يفسح مجالا لزيارتها مرة أخرى.
من بُنيات القلب:
- شكرا لجازان الشاعرة، لشكرا لمحمد إبراهيم يعقوب الجميل الذي أسعد القلب بزيارة هذه المنطقة.
- ممتن لكل الأسماء التي حضرت وتفاعلت معنا، لا أستطيع تسميتهم واحدا واحدا، فكلهم قابلتهم وسعدت بهم. شكراً لهؤلاء الشعراء الشباب الذين قدموا نماذج شعرية سيكون لها شأن في مقتبل العمر .
- شكرا أ. علي زعلة الذي قدمني في برنامجه (المتن والهامش).
جازان أنتِ الشعر يا أملا
تشدو به الأنفاس في الأشعار
يممت نحوك خاطري فتركته
لهفان في حلٍّ وفي أسفارِ