ننشر اليوم الحلقة الثالثة من هذه السلسلة ، وموعدنا اليوم مع تقرير تحليلي نادر نشر بتاريخ 15 فبراير 2012 في الطبعة الدولية الإنكليزية لمجلة دير شبيغل الألمانية الشهيرة (شبيغل أونلاين إنترناشينال). كتب التقرير ثلاثة صحافيين ألمان هم: ألكسندر كوهن، وكريستوف رويتر، وغريغور بيتر شميتز، وترجمه من الألمانية إلى الإنكليزية بول كوهين.
قناة الجزيرة تخسر استقلالها وحيادها
لأكثر من عقد من الزمن، حظيت «قناة الجزيرة» العربية باحترام على نطاق واسع، لتقديمها صوتا «مستقلا» من الشرق الأوسط. ولكن في الآونة الأخيرة، غادرها العديد من كبار الصحفيين متعللين بأن القناة كشفت بوضوح عن أجندة سياسية غير مستقلة.
كانت الساعة التي في يد الإعلامي السوري البارز أكثم سليمان متقدمة دائما على التوقيت الألماني، بالرغم من كونه يعيش في برلين؛ فهي تُظهر دائما توقيت الدوحة، عاصمة إمارة قطر وموطن قناة الجزيرة التي يعمل فيها سليمان الذي ولد في دمشق، وعمل كمراسل لقناة الجزيرة في ألمانيا منذ عام 2002.
يقول سليمان: «كان توقيت الدوحة يعني لي توقيت الجزيرة». ويضيف: «لقد كنت فخورا بالعمل في هذه القناة». ولكن منذ سنة ونصف، قام سليمان (42 عاما) بتعديل توقيت ساعته لتظهر توقيت ألمانيا فقط ، بعد أن تحرر من وهم «مهنية قناة الجزيرة» ، كما قال، ولم يكن ذلك لكون القناة أصبحت أقل اهتماما في التقارير الواردة من أوروبا أثناء ثورات الربيع العربي، بل كان لشعور سليمان أن الجزيرة لم تعد تسمح له بالعمل كصحفي مستقل.
لقد استقال سليمان من الجزيرة في أغسطس الماضي (عام 2011) ، ويقول: «قبل بداية الربيع العربي، كنا صوتا من أجل التغيير، ومنبرا لكل النقاد والناشطين السياسيين في جميع أنحاء المنطقة، ولكن الآن ، أصبحت قناة الجزيرة محطة بروباغاندا (دعاية) فجة».
سليمان ليس الوحيد الذي يشعر بخيبة أمل مريرة من قناة الجزيرة التي شهدت مؤخرا موجة من الخروج الجماعي لموظفين بارزين. لقد غادرها كبار المراسلين والصحافيين في مدن، مثل باريس ولندن وموسكو وبيروت والقاهرة، بالرغم مما تقدمه من مزايا مالية فريدة وبيئة عمل راقية في مكاتب مركزية فاخرة. وبالرغم من حقيقة أن الشبكة تستثمر نحو 500 مليون دولار أمريكي (375 مليون يورو) لترويج وتعزيز موقع قناة «الجزيرة الإنكليزية» في الولايات المتحدة (التي سميت بـ «الجزيرة أمريكا»)، وذلك بهدف الوصول إلى المزيد من المشاهدين في أكبر سوق تلفزيوني في العالم، وحيث سيكون أكبر منافسيها «سي إن إن» وفي موطن الأخيرة.
حقا إن شبكة قنوات الجزيرة عملاقة، حيث لديها أكثر من 3,000 موظفا و 65 مكتبا في جميع أنحاء العالم– وتصل إلى نحو 50 مليون أسرة في العالم العربي. ولكنها أصبحت تعاني من مشكلة أيضا وهي أن نقادها أصبحوا يؤكدون – كما لم يسبق من قبل - أن القناة كشفت «بوضوح» عن أجندة سياسية متحيزة، ولم تعد تلتزم بمبادئ «الاستقلالية» الإعلامية التي كانت سبب شهرتها وتعلق الناس بها.
وبالطبع، وجهت مثل هذه الاتهامات ضد قنوات غربية. ولكن مثل هذا الاتهام المذموم من شأنه – مثلا - أن يضع الجزيرة على قدم المساواة مع شبكة «فوكس نيوز» المكروهه عربيا وليس مع «سي إن إن» ، والأولى تلتزم «بوضوح» بأجندة قطب الإعلام اليميني المحافظ روبرت ميردوخ في الولايات المتحدة.
الموضوعية في عالم من الرقابة:
وفي الحقيقة، انطلقت قناة الجزيرة في عام 1996 لهدف نبيل، لتكون بمثابة منبر حر وموضوعي في عالم من الرقابة العربية الصارمة.
لقد بثت الشبكة رسائل من أسامة بن لادن، ما أثار انتقادات غاضبة من الولايات المتحدة، حيث أصبحت توصف بـ «شبكة الإرهاب». وفي نفس الوقت، كانت وسيلة الإعلام العربية الوحيدة التي تستضيف بانتظام السياسيين الإسرائيليين في برامجها. ولم يتردد مراسلوها أحيانا في وصف الرئيس العراقي السابق صدام حسين بـ «الديكتاتور» - والرئيس المصري حسني مبارك بـ «الجبان». ولكن منذ الربيع العربي، وصل العديد من المعارضين السابقين إلى السلطة في جميع أنحاء المنطقة - وغالبا ما أظهرت هذه القيادات الوليدة (في مصر وتونس مثلا) القليل من الاحترام للمبادئ الديمقراطية. ولكن قناة الجزيرة تملقت - بلا خجل - للحكام الجدد.
واليوم ، عندما يحتج المصريون ضد الرئيس محمد مرسي وحكم الإخوان المسلمين، فإن قناة الجزيرة في كثير من الأحيان تنتقد هؤلاء المحتجين كما لو كانت القناة التلفزيونية الحكومية المصرية القديمة. وفي المقابل، وفقا للمراسل السابق سليمان، أمر المديرون التنفيذيون لقناة الجزيرة أنه ينبغي تصوير قرارات الرئيس مرسي على أنها «لآلئ الحكمة». ويؤكد سليمان «هذا النهج الدكتاتوري كان مستحيلا في السابق. لقد أصب حنا بفضله قناة القصر الرئاسي لمرسي».
ولكن الأمير الذي يمارس نمطا استبداديا في الحكم، وصل أحيانا لوضع صحافيين غير مرغوب فيهم وراء القضبان ، يواجه موقفا صعبا على نحو متزايد مع الأرواح المستقلة التي تعمل في مشروعه المفضل: قناة الجزيرة.
النهج الجديد: مصالح وزارة خارجية القطرية أولا!!
ويقول مراسل بارز في بيروت: كان يعمل في الشبكة قبل سنة: «بعدما كسبت شعبية جارفة بفضل مهنيتها السابقة، أصبحت قناة الجزيرة الآن تتخذ موقفا واضحا لكل بلد تبث عنه تقرير - ليس على أساس الأولويات والمهنية الصحفية، وإنما بحسب مصالح وزارة خارجية القطرية». ويضيف: «ولذلك اضطررت للمغادرة طوعيا لأجل المحافظة على نزاهتي الصحافية».
وعندما، على سبيل المثال، اندلعت احتجاجات واسعة ضد النظام في مملكة البحرين المجاورة، وهي حليف لقطر في مجلس التعاون الخليجي، تجاهلت قناة الجزيرة بشكل كامل تقريبا تلك الاحتجاجات. ولكن في سوريا، من ناحية أخرى، حيث تدعم السياسة الخارجية القطرية الإسلامويين المعارضين للرئيس بشار الأسد بالمال والسلاح، أصبح صحافيو الشبكة قريبين من المتمردين للغاية. هذا القرب يمكن أن يكون خطرا من كل جوانبه لا بل وأحيانا قاتلا ، كما شوهد في مقطع فيديو على الإنترنت انتشر على نطاق واسع.
مقتل «مواطن صحافي» سوري:
يظهر في الفيديو تقاطع طرق قرب درعا، ويُشاهد مقاتل في الجيش السوري الحر المعارض للنظام، يرتدي سترة مضادة للرصاص، يركض عبر التقاطع في ضواحي مدينة «بصر الحرير» التي تحاصرها القوات الموالية لنظام الأسد لتسعة أشهر ماضية. ويتبعه رجل ثان، يشاهد وهو يرتدي قميصا رياضيا، ولكن بلا حماية من أي نوع. ومن نقطة تفتيش تابعة للجيش السوري تقع على بعد بضعة مئات من الأمتار، يطلق الجنود النار وتصيب عدد من الطلقات الرجل ذا القميص الرياضي وتقتله.
كان اسمه محمد المسلمة وعمره 33 سنة. وكان يعمل لقناة الجزيرة باسم مستعار هو محمد الحوراني منذ أبريل 2012. وقد كانت القناة تدفع له بانتظام كـ «مواطن صحافي» واشتهر بكونه المواطن الأكثر خبرة في جمع وتصوير الأحداث في درعا والمنطقة المحيطة بها وإرسالها لتبث عبر قناة الجزيرة.
ممارسة خطرة وغير مهنية من قناة الجزيرة
وقد أثارت وفاته العديد من الأسئلة. فمثلا، الركض عبر شارع واسع قرب نقطة تفتيش تابعة للعدو هو أمر محفوف بالمخاطر المهلكة. وفي حين أنه من المنطقي أن المسلمة كمواطن لم يكن يرتدي أي شيء ليوضح أنه صحافي. ومن المعروف أن المؤسسات الإعلامية الخبيرة تجهز موظفيها بمعدات السلامة، بما في ذلك السترات الواقية من الرصاص. ولكن قناة الجزيرة لا يبدو أنها كانت تفرض هذا النوع من الحماية للنشطاء المحليين (المواطن الصحافي) الذين يخدمونها كمراسلين بدوام جزئي وبأجر زهيد نظرا لظروفهم المادية السيئة.
يقول أكثم سليمان: إنه وعدد من زملائه طرحوا هذا الموضوع خلال زيارة إلى المقر الرئيس في الدوحة «قبل» بضعة أشهر من وفاة المسلمة. وأضاف لقد قلنا بوضوح، إنه «إذا لم يتم عمل تفريق بين الناشطين (المواطنين) والصحفيين الرسميين، فإن هذه الممارسة تشكل خطرا على الجميع».
ووفقا لسليمان، أشاد رئيس التحرير بفكرة «التفريق الواضح». ولكن لم يحدث شيء بخلاف حذف ذلك الفيديو الصادم والمروع من موقع قناة الجزيرة تماما، حيث تم نشره لأول مرة.
هذه الأخبار السلبية تأتي في وقت سيئ لقناة الجزيرة. فلعدة سنوات يحاول فرعها الجديد «الجزيرة أمريكا» كسب موطئ قدم في السوق الأمريكية المربحة، ولكن شركات التلفزيون الكبلي الأمريكية الرائدة منحتها فرصا قليلة جدا للبث.
التوسع في الولايات المتحدة:
وبسبب عدم تعاون شركات التلفزيون الكبلي الأمريكية، دفعت قناة الجزيرة في بداية هذا العام (2012) 500 مليون دولار لشراء محطة تلفزيون «كارنت تي في» (Current TV) الأمريكية التي شارك في تأسيسها نائب الرئيس الأميركي السابق آل غور. ورغم أن هذه القناة السياسية التي تميل لليسار الأمريكي (أي الحزب الديمقراطي) ضعيفة وتلقت تقييمات منخفضة، إلا أنها يمكن أن تُشاهد في أكثر من 40 مليون منزل في الولايات المتحدة، وهو أمر يبهج أمير قطر.
ويقول أستاذ الصحافة البروفيسور فيليب سيب: «بالطبع السعر مرتفع جدا لمحطة ضعيفة ولا شعبية لها، ولكن أمير دولة قطر مصمم على التوسع في أمريكا». ويضيف سيب، إن «قناة الجزيرة بدأت تعاني من اشتداد المنافسة في السوق المحلية العربية من القنوات المحلية والدولية المنافسة». وأضاف سيب، إنه يعتقد أن التوسع في الولايات المتحدة هو نتيجة منطقية لهذا التطور.
ولكن هل سيكون هذا الاستثمار الضخم مجزيا ومفيدا؟ إن سوق الأخبار الأجنبية يواصل التقلص في الولايات المتحدة، والجمهور الأمريكي لديه تحفظات على هذه المحطة العربية. آن كولتر، الكاتبة الأميركية المحافظة سخرت على تويتر: «آل غور باع محطة «كارنت تي في» للجزيرة ب ـ 500 مليون دولار، ولكن تصوروا: الصفقة قد لا تتم، لأن تنظيم القاعدة الإرهابي لا يملك في البنك سوى 400 مليون دولار!!».
لا يمكن التغلب على هذه العنصرية إلا بتقديم صحافة مهنية رفيعة من الدرجة الأولى. أعلنت قناة «الجزيرة أمريكا» عن 160 وظيفة جديدة للعمل في 10 مكاتب أمريكية جديدة وتلقت بالفعل أكثر من 8,000 طلب. وهذا الإقبال ليس مستغربا، لأن أزمة الاقتصاد الأمريكي أثرت على وسائل الإعلام الأمريكية، وكلفت العديد من الصحفيين الأمريكيين وظائفهم.
ولكن هناك أيضا سخطا متزايدا في الولايات المتحدة حول الكيفية التي قد تحاول الدوحة عبرها التأثير في الرأي العام الأمريكي قسرا؛ فقد اشتكى موظفو الشبكة مؤخرا من أن «الكلمة» التي ألقاها الأمير في الأمم المتحدة، أصبحت الخبر الرئيس في نشرات الأخبار المسائية للجزيرة الإنكليزية.
يقول بروفيسور سيب: «إنه نفس الشيء في كل مكان في مجال الإعلام: من يدفع هو الذي يحدد النغمة المطلوبة». ولكن من المفارقات أن القناة القادمة من الدوحة في البداية هدفت لأن تكون أكثر من مجرد نموذج ناجح للأعمال. فبحسب شعارها الذي صاغته ذات مرة كانت تهدف لأن تكون «صوت من لا صوت لهم»!!