كثيرة هي التحيزات، التي يمارسها الإنسان إزاء عدد من الكائنات الحية، خاصة تلك التي يظن بأنه يناله منها شيء من الأذى. بعضها ربما يكون موضوعياً، وله صلة بالواقع، وبعضها الآخر قائم على تصورات وهمية؛ انطلق فيها من ملاحظات غير محققة، وتحليل لبعض الظواهر، التي حكم عليها من خلال معارفه المتوافرة لديه في حينه، وبقيت كذلك حتى بعد تغير تلك العناصر.
إحدى المقولات، التي اقتنع بها الإنسان، وأوردت بعض الثقافات - ومنها العربية - ذلك الاقتناع إلى صلب التفكير بشأن بعض تلك الكائنات؛ ما يتردد عن أن الذباب من أشد الكائنات الحية إلحاحاً على الممارسة، التي يرغب فيها، أو المكان الذي يريد ارتياده. وقد ترسخت المقولة في هذا المنحى في مثل عربي هو: «ألحّ من ذباب»! ويضرب المثل فيمن يلحّ على أمر بعينه، دون أن يكون ذلك الإلحاح مبنياً على مسببات موضوعية.
فقد أثبت العلم الحديث، أن الذباب في تكراره لمحاولات الوصول إلى المكان نفسه، ليس بسبب عناده، أو إلحاحه على البقاء في ذلك المكان؛ بل هو بسبب كونه يفقد الذاكرة المتعلقة بطرده من المكان، الذي كان يوجد فيه، فيعود إليه مرة أخرى. لكن البشر الذين بنوا فكرتهم مسبقاً عن الذباب، وكونه من الفضوليين الموغلين في فضوليتهم، وغير مهتم بمدى تبرم الآخرين بمدة استضافته لديهم؛ لم يعدلوا من فكرتهم عن هذا الكائن، حتى بعد أن عرفوا أن الأمر ليس كذلك.
لكن لماذا لا يعوّل البشر على مواقف الكائنات الأخرى في بناء آرائهم عنها؟ فهم لم يتعرفوا على صفات الحمار جيداً، ليصفوه في تحيز مسبق بأنه كائن غبي، بل ربما يعدونه أغبى الكائنات، ومضرب المثل فيها. ووصفوا الكلب بالخسة - على الأقل في الثقافة الشرقية - فأصبح مرتبطاً في تلك الثقافة بالنجاسة، وقلة المروءة، مع ما يربطه بالإنسان من صلات وثيقة، وعلاقة منافع متبادلة. كما وصفوا الثعلب بالمكر، وأنه مخادع لا يمكن أن يؤتمن؛ فإذا وصفوا إنساناً بأنه ثعلب مجازاً؛ فإن ذلك يعني أنه يخدع المتعاملين معه، ويظهر على غير حقيقته. أما الغراب فقد استحق كثيراً من الصفات الذميمة برأيهم، فهو طائر مشؤوم وقبيح الصوت والصورة، ويعدونه مضرب المثل في كل سوء؛ ولا يمكن أن تكون هناك صفة إيجابية لأي شخص يوصف مجازاً بالغراب، أو الموقف الذي يربط بأي من شؤونه. وطائر البوم كذلك له نصيب من الصفات السلبية، وخاصة الشعور بالقرف من رؤيته، مما أصبحوا يدرجونه ضمن الظاهرة المعروفة بالشؤم. وكذلك نعتوا صوته بالقبح، وكونه يؤدي إلى تكوّن المشاعر السلبية.
وفي المقابل وصفوا الذئب بصفات جيدة خلافاً لبقية الحيوانات المنتمية إلى فصيلته؛ مع أنه يعتدي على حيواناتهم، ولا يستفيدون منه على الإطلاق، خلافاً للكلاب التي تحميهم من الذئاب، وتحرس بيوتهم ومواشيهم؛ ثم لا ينالها من الصفات الحميدة شيء إلا على سبيل التندر.
وفي حين كان وصف الغراب بذلك السوء؛ لم يكن للطيور الجارحة التي تؤذي الإنسان، وتفترس بعض حيواناته المستأنسة النصيب نفسه من السوء. بل كانت في صورة زاهية جداً، إلى الدرجة التي جعلت عدداً من الأمم تتخذ رمزية النسر أو الصقر أيقونات تدخلها في شعاراتها الوطنية. فهل يتعلق الأمر بحالة مازوشية لدى البشر؛ يرفعون فيها من قيمة من ينال منهم، ويؤذيهم بأي شكل من الأشكال، أو ينازعهم على خيرات الأقاليم التي يعيشون فيها؟ يبدو أن الأمر كذلك؛ وقد قالت بعض الأمثال الشعبية: «القط يحب خناقه»! وأعود إلى القول: ما رأي تلك الكائنات في الإنسان؟