يتعذر إحداث لون من التطور الحضاري اللافت من غير نقلة نوعية في التعليم وفي كافة مستوياته المرحلية وفي هذا السياق تأتي الورش التقويمية كأحد أبرز الآليات لتطوير العملية التعليمية والدفع بها نحو آفاق أكثر تقدما, لكن لا يمكن لمثل تلك اللقاءات الدورية أن تتمخض عما يُنتظر منها من جدوى ما لم يكن ثمة آلية دقيقة في اختيار نوعية المشاركين والتعليم كغيره من القطاعات كما أنه ينطوي على نخب وكفاءات طليعية متميزة تدعو للفخر والاعتزاز هو أيضا يحتوي على كثير من العناصر التي تفتقر إلى كثير من سمات الفاعلية والإنجاز.
لقد حضرت وبالتأكيد كثيرون غيري حضروا مؤتمرات ولقاءات وورشات عمل تتعلق بتطوير المناهج وإعلاء جودة المسار التعليمي وهذه اللقاءات ولكي تؤتي أكلها لا بد من تجاوز عدد من السلبيات التي سأشير باقتضاب إلى أبرز اثنين منها كالتالي:
أولا: لاشك أن هناك من يدعى للمشاركة في تلك اللقاءات وهم على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على تقديم إضافة ثقافية تقدر فتذكر وتشكر وهذا الصنف بطبيعة الحال لا يتوجه إليه الحديث هنا بقدر ما يتوجه إلى ذلك الطيف الآخر الذي يدعى للمشاركة أو- وهذه أعظم - لقيادة تلك الورش وإدارتها وتوجيه دفة الحوار فيها ممن هو لا يملك الأدوات العلمية المؤهلة لذلك على نحو يتعارض صراحة مع الهدف التطويري الذي من أجله تعقد مثل تلك اللقاءات!.
إن فاقد الشيء لا يعطيه, وتدني مؤشر الكفاءة العلمية يجعل من صاحبه وكنتيجة لانحباسه في تصورات مغلوطة يسيء إلى المعرفة ويشوه جمالياتها والمصيبة تعظم حينما يكون صاحب قرار أو ملاحظاته معتبرة في هذا السياق فيتفانى في حذف نصوص أو بتر أخرى مع عدم توفر المسوغات المنهجية لذلك فمثلا تجد هناك في مجال الأدب من يقرأ نصا إبداعياً متميزاً ويختزن قيمة فنية لافتة وليس فيه أي محذور ديني بل على العكس قد يتضمن قيما عليا يفترض تسويقها لكن هذا القارئ ونتيجة للفهم الرغبوي المبتسر والذي لا يدرك أثر السياق في تغير مدلول الجملة فهو بطبيعته يركز على حرفية المفردة ودلالتها الهامشية عاجزاً عن التحليق في فضاء العبارة والتقاط دلالاتها الجوهرية وفك الرموز والإشارات النصية, أي أنه يتعامل مع النص بسطحية متكاملة وبالتالي يُكَون علاقة نفورية مع النص فيتعاطى معه بوصفه نصا متهما- التهمة هنا جاهزة ومعلبة ولا تتكئ على دليل!- قد تم استدعاؤه لتجسيد نوع من الاختراق لأبناء الجيل على الصعيد الثقافي وهذا بالتالي يستدعي حذفه من المنهج وإهالة التراب على مضامينه! ولا غرو, فضعف التكوين الثقافي وضمور الملكة الأدبية وانخفاض سوية التماسك النقدي يجعل القارئ يفهم المراد على غير وجهه وقد يُقَول النص ما لم يقل ويلزمه ما لم يلزم - الحالة هنا مشاعرية بامتياز!- النص هنا يصبح مدانا, تراد محاكمته, لا لشيء إلا لأن هذا القارئ يفتقر إلى مهارات التحليل والتركيب ويعاني وبشكل ملحوظ من تردي درجة الحالة القرائية وبالتالي فهو يتحرك خارج سياقات المعرفة وبعيدا عن مداراتها!
طبعا هذا الحكم بحذف هذا النص أو إلغاء تلك الفقرة الأدبية لو كان حكما موضوعياً منهجياً علمياً خالياً من التحيزات متكئاً على مبررات نقدية منضبطة بالدال الشرعي لما كان ثمة مشكلة بل بالعكس هذا هو المطلوب ولكن الإشكالية هنا أن هذا الحكم ليس إلا حكماً انفعالياً متشنجاً لا يمت إلى العلمية بصلة!.
الاعتراض على فكرة ما في المنهج المقرر إذا كان اعتراضاً مدللاً مشفوعاً ببراهينه فهو أمر مطلوب بل هو عامل إثرائي يضبط المفردة التعليمية ويرشد مجالات تحركها.
إن ضمور الكفاءة المعرفية هو ما يجعل من صاحبه يتعاطى مع المعرفة بطريقة غير معرفية, هنا المعرفة تحارب باسم المعرفة وهنا تكمن الكارثة فالمعرفة هنا تحاصر, تطارد, تصادر, بل يتم إلجاؤها إلى أضيق الطريق ومن ثم تحال وبشكل قسري إلى قفص الاتهام وهكذا تتم مصادرة هكذا نص أو فقرة أو عبارة لا لسوء تنطوي عليه في مضامينها وإنما لسوء فهمٍ هو ذاته ما أو ما إليه أبو الطيب: وكم من عائب قولا صحيحا....
يتملكك العجب وتجتاحك حالة من الذهول حينما ترى من يشارك أو يدير ورشة في تخصص كاللغة العربية مثلا وهو لا يعرف الفرق بين الجملة الخبرية والجملة الإنشائية أو لا يستطيع استيعاب أن الجملة الواحدة قد تكون خبرية من وجه وإنشائية من وجه آخر!
أو لا يعرف الفرق بين الفعل اللازم والفعل المتعدي فيقيس هذا على ذاك مع أن هذا كما تقرر القواعد الأصولية: قياس مع الفارق!
إن تواضع مستوى الأداء المعرفي سمة تمت ملاحظتها على أكثر من صعيد على نحو يقلل من فرص الإضافة والإثراء بل ويؤثر تلقائياً على مصداقية الاستنتاجات وهكذا هي المقدمات الخاطئة لا ينبثق عنها إلا نتائج خاطئة...يتبع