لا يمكن لأحد أن يتناول العقل العربي دون أن يتناول رباعية الدكتور الجابري الذي يعد من أوائل من كتب في هذا الإطار، على الرغم من أنني أجد كثيرا يردون هذا المصطلح في كتاباتهم، ومحاضراتهم، وعلى الرغم من قلة المادة العلمية التي لدي تجعلني أستطيع أن احكم على صلة تلك المادة المنتجة بالعقل العربي، فإنني أرى أنها متأثرة بالجابري الذي سعى لأن يتناول عددا كبيرا من الدراسات.
كتب الجابري كتبه ومشروعه الفكري العظيم، ولكن القراءات التي أنتجت حوله قليلة ولا تضاهيه قيمة وعظمة، إلا قراءة جورج طرابيشي في كتابيه الجيدين نظرية العقل، والعقل العربي والإسلامي الذي وقف فيه على ملاحظات جيدة تأويلية تبحث في المواقف الذي اتخذها الجابري في كتبه، والخطاطة التي بنى عليها كتابه.
ولا شك أن قراءة مشروع كهذا قراءة علمية عميقة تتطلب جهدا كبيرا ووقتا، والوقوف على مصادر علمية كثيرة بعضها فقهي، والآخر أدبي ونقدي، والثالث فقهي وأصولي، ويتصل بعلوم القرآن، ورابع فلسفي، وخامس تاريخي لهذه العلوم. وهذه المصادر لا تتوافر إلا لقلة قليلة جدا من الناس، ثم يأتي بعد ذلك القدرة على التأصل مع هذه المصادر جميعا.
ومن الحق أن نقول إن هذه الموسوعة الفكرية التي أنجزها الاستاذ الجابري تعد بحق وكما يسميها، أول تأريخ حقيقي للفكر العربي، تحفر في الأسس التي قام عليها هذا التراث، والروابط التي تربط بينها، وتبحث عن انعطافاته وتغيراته، وتمثل نوعا من تقديم صورة للفكر العربي القديمة، وخطاطة تختلف عن الخطاطة التي اعتدنا عليها التي تقطع أوصال التراث العربي القديم بين لغة، وأدب، وتفسير، وفقه، وعقيدة، وغيرها مما اعتدنا تقسيمات التخصصات في المؤسسة الأكاديمية العربية ومن ورائها الاستشراقية.
والقارئ لهذا المشروع الكبير والجزء الثاني على وجه الخصوص الموسوم بـ «بنية العقل العربي» يخرج بتصور جيد عن كثير من القضايا التي طرحت في التراث العربي القديم، ودار حولها الجدل، كما يخرج بصورة جيدة عن المراحل التي مر بها ذلك التراث في التكون والتطور.
ومع كل هذا الجهد الذي قام به الجابري فإن كثيرا من المسائل التي سلكها يمكن الجدل حولها، والاختلاف حول ما فيها من مقالات، وذلك لثراء ذلك التراث وتنوعه، وطول مدته، واختلاف القول في تأسيسه، فإن كثيرا من هذه القضايا المطروحة يمكن القول فيها، والتي بنى عليها تحليله هي قضايا قد اختلف فيها القول عند أصحابها الأوائل، وتبديل القول المختار في الظاهرة المدروسة يقلب التحليل رأسا على عقب. إلا أنه يحمد للأستاذ الجابري قدرته على اختيار الآراء المتوائمة التي توصل مجتمعة في النهاية إلى رؤية متماسكة هي رؤيته بطبيعة الحال على اختلاف مستوياتها، وأنواعها التي وقف طرابيشي على جوانب منها.
قسم الاستاذ الجابري مشروعه إلى أربعة أقسام. تناول في القسمين الأولين: تكوين العقل، وبنية العقل. وفي الآخرين العقل السياسي، والعقل الأخلاقي، وسأخص تداخلي معه في القسمين الأولين: تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي.
يفتتح الاستاذ الجابري كتابه بمقدمة تفصيلية عن مفهوم العقل عند لالاند - كما أشار طرابيشي - يذكر فيها أن العقل له مفهومان: أحدهما الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء، والثاني: مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. ثم يحدد بأنه يريد الثاني أي مجموع المبادئ، والقواعد. و في الوقت نفسه يحدد مجموع المبادئ والقواعد بأنها «البينة الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين». ومعلوم أن عصر التدوين تميز بأنه للتدوين، بمعنى جمع النصوص التي تتضمن أشعار العرب، وخطبهم، وأخبارهم، وأيامهم، ولغتهم، وهو عصر الرواية أيضا، وفي هذا العصر دون بعض الأحكام والآراء للعلماء، مثل الصحابة - رضوان الله عليهم - وتابعيهم، أو من بدايات العلم. ولكن العلوم في هذه المرحلة لم تكن تمثل سوى ملاحظات يسيرة، ويمكن القول انها أولية في مقابل الكم الكبير من النصوص، والأخبار التي هي الأساس في ذلك العصر، الذي عاد إليه الدارسون من بعده، وهو الذي يميز هذا العصر باعتباره حلقة بين جيل يحتفظ بأخبار السابقين وطبائعهن، وإطالة الفكر وجيل جديد لا صلة له بتلك الأخبار أو طبائعهم. هذه الملاحظات يبين قيمتها ابن سلام بما يرويه عن يونس في حديثه عن علم ابن أبي إسحاق حين سأله سائل عن منزلة علمه بعلم الناس في زمن السائل، فقال: «لو كان في الناس اليوم لا يعلم إلا علمه لضحك منه». وسبب الضحك هو ضحالة ذلك العلم وقلته.
وهنا نسأل عن محتوى «عصر التدوين» الذي يقصد، أهو النصوص المروية، أم المؤلفات التي صدرت في النصف الثاني من القرن الثاني ككتاب سيبويه، ورسالة الشافعي، والبيان والتبيين؟ فإن كان المقصود هو النصوص المجموعة في تلك الحقبة، فسينبني عليه سؤال آخر حول مشروعية هذا القول. وإن كان يدخل فيه المؤلفات التي وضعت في ذلك العصر، فإن السؤال حول المكونات الموضوعية للأفهام والعقول في ذلك الزمن لا يزال مفتوحا، فليس من المقبول أن نقول: إن هذه الكتب استنبطت من النصوص وحدها، ونحن نقرأ قول الجاحظ وهو المجايل للشافعي قوله: قيل للفارسي ما البلاغة؟ وقيل للرومي ما البلاغة، وقيل للهندي ما البلاغة. ويعتد بهذه الأقوال في تعريف البلاغة والبحث فيها، وقد انعكس هذا على الباحثين في البلاغة بعده، سواء هذه الأقوال التي سعى الجاحظ لاستقصائها أو البحث عن مصادرها الأصلية للنقل منها، ولذا لا نعجب إذا وجدنها أكثر أثرا فيمن جاء بعده.
وإضافة إلى هذا، إذا كان التكوين قد تم في عصر التدوين، وإليه تعود البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية، فكيف تكون بنية العقل العربي مختلفة عن تكوينه؟ لأن بنية العقل العربي تكونت كما في الجزء الثاني من ثلاثة عقول: البياني، والعرفاني، والبرهاني، لأن هذه الثلاثة عقول أو عناصر لا تمت إلى عصر التدوين وإلى العقل العربي بناء على تعريفه السابق الذي اعتمد عليه في تحديد العقل العربي. وإنما ينبغي أن تكون بنية العقل العربي انعكاسا لتلك البنية الذهنية السابقة التي في القسم الأول، فتكون مثلا: الأشعار، والقرآن والحديث، والأخبار أو تكون النحو واللغة، والأدب والنقد، والتاريخ والسير، والفقه وعلوم الحديث والقرآن بناء على تقسيم المؤلفات.
وإذا كان العقل العربي قد تكون في عصر التدوين، وأن بنيته هي الثاوية في الثقافة العربية، فإن أثر تنوع بنية العقل العربي ما بين بياني وعرفاني وبرهاني سيكون محدودا بناء على معرفة الحدود التي يركض بها هذا العقل، وهي حدود النصوص الأصلية التي استنبط منها القواعد والمبادئ التي جاءت أيضاً في الكتب الموضوعة في ذلك العصر. وهو ما يجعل هذا التنوع شكليا وظاهريا أو يمكن القول إنه منهجي كما عبر الاستاذ الجابري نفسه، وهو منهجي في ظل توحد المتن المدروس، ومعرفة النتيجة التي تحددت في كثير من الأحوال قبل المنهج، يصبح اختلاف المنهج اختلافا صوريا، وهو ما أكده الجابري نفسه حين جعل البرهان في خدمة البيان والعرفان في عنوان خاتمة الجزء الثاني من الكتاب، وهنا ينطبق السؤال الذي يطرحه بعض الدارسين: إذا كانت النتيجة معروفة بدون الطريقة فما الفائدة من الطريقة؟! وعلى هذا لسنا بحاجة إلى القول ان الجابري يرى أن العقل العربي كان قد نشأ في مرحلة التدوين، وأن ظل يكرر ذاته، وأن «عصر التدوين» الذي يمثل المرجعية الإسلامية والعربية للعقل العربي هو الذي ظل مهيمنا على منظومتنا الفكرية مهما اختلفت المؤلفات، واختلفت الأسماء، وأن هذه السيطرة قد امتدت أيضاً إلى العصر الحديث فأصبحت «الذات العربية الراهنة تفتقد استقلالها لأنها تستمد فاعليتها وردود فعلها من مرجعيتين اثنتين متنافستين ومتعارضتين.. إحداهما تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي والثانية تنتمي إلى الحاضر والمستقبل الأوربي» وأن الجابري وصدى لرؤيته الفكرية وقع أسيرا لهذه الرؤية في كتابه الذي حاول أن يقف فيه على منظومة العقل العربي، ولكنه أصل لرؤية واحدة جعلها مسيطرة على العقل العربي القديم مهما تغيرت وجوهه، وممتدة إلى العصر الحديث، إنها الرؤية العربية القديمة الثابتة غير المتغيرة كما هي في العصر الجاهلي، وهذه الرؤية رؤية سلفية بامتياز لأنها تنفي وجود كل شيء حادث بعد هذه المرحلة.
الملاحظة الأخرى تقوم على تقسيم بنية العقل إلى ثلاثة عقول: البياني والعرفاني والبرهاني، وإذا صح أن العقل هو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا، فإن العقل العرفاني / الصوفي على وجه الخصوص يفتقد لهذه الخاصية، فهو علم يقوم على التجلي، وعلى الكشف، والمنامات، وهي قضايا لا ضابط لها حقيقي، بل إنها لتختلف من شخص إلى آخر بناء على الذوق، لأن هذه العناصر الثلاثة تقوم على الذوق، والذوق أمر خاص بالشيخ لا يدركه إلا بكثرة المجاهدة، يقول محيي بن عربي: «لأن كلام أهل طريق الله عن ذوق ولا ذوق لأحد في نصيب كل رسول من الله لأن أذواق الرسل مخصوصة بالرسل وأذواق الأنبياء مخصوصة بالأنبياء وأذواق الأولياء مخصوصة بالأولياء»، وهو يختلف من حال إلى حال، وكل شيخ وولي له ذوقه الخاص به الذي لا يعلمه أحد ولا سار بنفس طريقه فإنه لا يكشف عن ذوقه الخاص به الذي وصل إليه بكثرة مجاهدة البدن، والنفس، يقول في ذلك : «أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا». وهو بهذه الحال يختلف اختلافا كليا عن مفهوم العقل كما بينه الجابري لأنه ليس له مبادئ عقلية ممنهجة توصل إلى أمر واحد. أما ما قدمه ابن عربي في الفتوحات من شروح ومحاجات، ومحاولة منطقة (جعله منطقيا) الفكر الصوفي، فهذا يدخل في أحد القسمين الآخرين، ولا يجعله قسما مستقلا لأنه لم يستعمل مصطلحات التصوف (التجلي، والكشف، والحضرة، والمرتبة والذوق) في تشكيل عقل ومبادئ يمكن الاحتكام بها وإليها، وإنما استخدم العلة، والسبب، والبيان لإيضاح هذه المصطلحات وتقريبها إلى عقل المتلقي. وهي بهذا تشكل منظومة معرفية من خلال تنظيمها للأشياء، وترتيبها لها، وجعلها رؤية متكاملة نحو الأحياء وعلاقة بعضها ببعض، ولكنها ليست عقلا لأنها لا تحمل مبادئ متماسكة ثابتة واحدة يمكن أن تطبق على جميع الحالات وترتبط بالواقع، وذلك أن معظم هذه المصطلحات تتصل بالخيال، ووجودها يكون فيه (راجع: المكان الصوفي في الرواية العربية، د. إبراهيم الشتوي).
وإلا فإن العقل الشرعي وهو المواضعات المحددة للتفكير وللنظر إلى الأشياء سيكون أبين، وأظهر من العقل العرفاني، وذلك لتميزه عن غيره من الأدوات في رؤية الأشياء، ومثال ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن رؤية هلال رمضان حين قال: «الصوم حين تصومون والفطر حين تفطرون»، فالصوم أو الفطر ليس منعقدا بالرؤية وحسب، أو بظهور الهلال، ولكن بما انعقدت عليه نيات الناس وسارت عليه حيواتهم إذا لم يكن هناك نقصان بين، فهنا أصبح الصيام صحيحا والشهر كاملا ليس بناء على ما ذكر وإنما بناء على ما اجتمع الناس عليه وسارت به أيامهم. وهي حالة خاصة بالدين، ويمكن أن تستنبط ملامح هذا العقل في القرآن والسنة التي تحوي شواهد عليه.
وبهذا لا يصبح لدينا إلا عقلان هما: البيان والبرهان، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا مدى صلة هذين العقلين بعصر التدوين.