عندما راسلني الدكتور إبراهيم التركي طالباً المشاركة في الحديث عن الشاعر أحمد صالح.. أرسلت عتباً قلت فيه لماذا لم تبلغني إلا في هذا الوقت الحرج، « فأبو محمد» يستحق منا الكثير.. ولقد شعرت بحصر، و حصار شديد، فكيف لي أن أكتب عن «المسافر» في وقت ضنين و حرج كهذا..؟ فسامح الله حبيبنا إبراهيم، و ليعذرني « شاعرنا» إذا جاء الحديث عنه قصيرا، و مبعثرا، و مبتسراً، فهذا الحديث يكتب تحت خيمة من خيام الصحراء، والتي ربما ساعدت على مدّ البصر قليلاً نحو أفق الصحراء... و هو العاشق، المتيّم بها، و ببيدها، و نجومها، و نفلها، و جعدها، و خزاماها، حيث نقل هذه المشاهد الجمالية و هذا العبق، الأسطوري، و تمثلها، فجاءت جزءاً من تكوين و نسيج قصائده الرائعة البهية... ففي في شعر « أحمد» ملامح من سحر الصحراء، من ضوئها، و تجلياتها البيئية البهية، فتسمع في شعره حداء الركبان، و غناء السمار و الرعاة، فيه أصوات القطا، تهتان الامطار، و حنين الإبل، و تصاهل الخيل، سوف ترى فيه آماسي و أصائل الغروب، و ضوء القمر، و جَوّاد المناهل، و دروب الفرسان.. ستشم فيه رائحة الشيح و العرار، و القيصوم..
«فمسافر» يكتب بهذا المزيج من المداد الملون من طينة الأرض و من عبقِها، من سطوع أصباحها، و أضاحيها، لم يخرج بفنه عن بيئته، و لم يكتب بمداد غيره، لم يحاول اعتساف ابداعه، ليكون صورة قادمه من بعيد، من خارج البيئة، و التضاريس.. أبداً فإبداع أحمد ممتزج برفات الارض، برفات شعرائها، و فرسانها، و كرمائها، و بما تركوا من تراث رائع، و مبهر.. فجاء عطاؤه منسكباً من تلك البحيرة الصافية التي تنام في أحضان الرمل، و النخيل و تغفوا في أجفان القمر، و العشاق.. و في شعر أحمد عذوبة و جمال، بل و فيه فروسية و نبل.
فهو الشاعر العاشق، ذلك العشق المتجذر في القلب و العظم.. هو عشاق للحياة، و الانسان، و البيئة، عاشق للعدل ، و للخير، و للحرية، و الكرامة.. رافض للقبح، و الظلم، و الغشش، و الفساد.. كما أن عروق قصائده تنبض بالوطنية، و الغيرة و الحمية.. تشعر أنه يحمل هموم أمته، و أن مواجع هذه الأمة تصطرخ في أعماق روحة.. فلم يكن الشعر عند أحمد، ترفاً، أو مباهاة، و لا بحثاً أو تصيداً للشهرة.. بل الشعر عنده - مع كونه إبداعاً - رسالة سامية، و أداة فاعلة للتعبير عن فرح الانسان، و حزنه، و انكساره، و مأساته... هذا هو «أحمد» و شعر أحمد.. حيث يتداغم، و يتناغم مع موهبته، و فنه ليشكل، و يجسد الانسان الشاعر ممتزجاً بإبداعه كلوحة فنية ذات لون بهي و فريد ...
سوف تجد الحزن متشابكاً مع الفرح.. و الصخب ملتحماً بالهدوء.. و الحنين مدفوناً في ذاته كجدول يتدفق تحت الرمل و الصخور.. أو كوشل حبّات المطر حين تهطل من سعف النخيل في ليلة غيث شتوية.. و لهذا لن تستغرب أن تنزّ روحه الإبداعية، و تهمي بهذا الابداع الصافي، كما هتنت «طرفاء» الصمة القشيري، حينما ناشتها هبوب الجنوب.
** ** **
هكذا قدر لي أن أكتب هذه العجالة تحت خيمة، أظنها ليست بعيده عن ربع «مية» و أطلالها التي هام بها شاهر الحب و الصحراء غيلان « ذو الرمة» حين قال:
وقفتُ على ربعٍ لميَّة َ ناقتي
فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُه
وَأُسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبِثُّهُ
تُكلِّمُني أحجارُهُ وملاعبهْ
و ما أشبه شاعرنا بـ» غيلان» ذلك الشاعر العظيم الذي أوقف فنه على محبوبته، فلم يمدح كثيرا، و لم يهج كثيرا، و لم يتاجر أو يتكسب بفنه..و «مسافر» أوقف شعره على شعره و فنه على فنه.. فلم يتكسب و لم يجازف به، فينافق إعلاماً زائفاً أو يشحذ ناقداً مترصداً متاجراً بنقده، و إنما كان عزوفاً عن تلك الشعوذات، مؤمناً أن صوت الابداع أقوى من البهرجة و الدجل،و الزيف..
أقول إنني في هذه العجالة التي فاجأني بها حبيبنا إبراهيم ربما شفيت شيئاً قليلا مما في نفسي أذ لم تفتني المناسبة.. و لكنها بكل تأكيد لم تنطق بالكثير مما لدي عن هذا الشاعر الكبير في فنه و إبداعه... فليعذرني «أبو محمد» فهو أدرى الناس بإعجابي بفنه و ابداعه، و بنبله و خلقه الرفيع.