تنطوي قراءةُ النصوصِ الشعريةِ - أو محاولةُ قراءتها - على مغامرةٍ ليست هينةً، لأن القارئَ يصدر عن تفاعلِه الخاصِ مع النصِ بين يديه الذي قد يقترب مّما «في بطنِ الشاعر» أو يبتعدُ عنه، ولا يمكن بالتالي لأي أحدٍ أن يقرّر ذلك سوى الشاعر نفسه - إن كان معنيًا بالاطّلاعِ على ما يثيره في ذهنِ متلقّيه - ولكن هل يمكن الجزمُ بوجودِ قراءةٍ صحيحةٍ تمامًا أو خاطئةٍ تمامًا؟ أعني ما دامت القراءاتُ والتأويلاتُ تختلف تبعًا لتعدّد خلفياتِ القراء، ولكن لا بدّ أنّها على اختلافِها يتوفر لها أساسٌ مشتركٌ أو نقاطُ التقاءٍ ما. كلُ هذه الأفكار وأكثر ممّا لا يمكنني التخلصَ منه كلما حاولتُ تلقي نصٍ ما تلقيًا واعيًا - أو هذا ما أعتقده - وهو ممّا دار في ذهني وأنا أقرأ قصيدَة الشاعر «أحمد الصالح - مسافر» المعنونةَ (انتفضي أيتها المليحة) التي كتبها عام 1980 قبل الانتفاضةِ الفلسطينية، مع إيماني أن السعيَ نحو الكمالِ نوعٌ من الكمال!
تظهر المفارقةُ الأولى في الشرطِ «غيرِ المعلن» الذي يبدأ به الشاعرُ قصيدتَه فيقول:» غداةَ تستطيعُ أن تقول/ وتبدأ اللحظةَ من عمرك/ وغداةَ تستطيعُ صونَ العرض / وحفظَ ماءِ الوجه...» ثم يأتي الجواب:» يقتادك الوجع/ يعتادك البطنُ الذي ما ملّ من شبع..» ويظهر للقارئِ للوهلةِ الأولى أنّ هذا الشرطَ ينطوي على متناقضيْن، فالمفترض «منطقيًا» أنّك حين تتمكّن من التعبيرِ والدفاعِ عن نفسك وصونِ ماء الوجه سيكون الناتجُ أن تبرأَ من الوجعِ وتغادرَك الوساوسُ ولأنك حققْتَ كلَ ذلك فلا بدّ أنك بعيٌد كل البعدِ عن الجشع،لكنّ الواضحَ أن الشرطَ ها هنا جوابُه «مفقودٌ»، ما يعني أنه ليس هنالك ارتباطٌ بين ما سميناه الشرطَ غير المعلن والجواب الذي يبدأُ بالوجع وغيره، فكلُ ما ذكره بدءاً لا يتحقق بسبب ما ذكره تاليًا، لأنك مسكونٌ بالوهن والضعف بكل أشكاله من جشعٍ وشهوةٍ ووسواس!
يبرز الخطابُ كتقنية تواصلٍ مع القارئ تكسر رتابةِ التلقي بالرغم من صرامةِ هذا الخطاب الذي يتوزّع على ثلاثةِ مخاطبين أولهم مفردٌ مذكرٌ ينفرد بالمقطعيْن الأول - الذي وصفته أعلاه - والثاني الذي يميلُ إلى المباشرةِ حين يقدمُ الوصفةُ التي يستطيعُ بها «الحاكمُ» أن يقهرَ عدوَه ولا يكون ذلك إلا إن أولى رعيته الاهتمامَ وخاطب عقولهم، فبهذا وحده تتحقق الكينونة، ولعلّ هذا مما يستدعي إلى الذهنِ سؤالَ هاملت الشهير «أن أكونَ أو لا أكون، تلك هي المسألة»!وليس هذا الاستحضارُ الوحيد فلا بدّ عند قراءةِ قوله :» لا ترفعنَّ ..»أيها»!! مصاحفًا على الرماح» أن يتبادرَ إلى الذهنِ موقعةِ صفّين والتحكيمِ ورفعِ جيشِ معاويةَ المصاحفِ على الأسنةِ، وكأنه «ينهى» الحاكمَ - وغيره أيضًا - عن استغلال الدين لمآربه الشخصية. أما المخاطبُ الثاني فهو يظهر على خجلٍ في سطرين من القصيدةِ كاملةً: «وأنتم..»يا أيها»..! / لا تدخلوا بوابةَ «الإصطبل»، وإن كان المخاطبُ الأولُ هو الحاكم فلا بدّ أن يكون هؤلاء هم الشعبُ الذي عليه أن يكون واعًيا لا قطيعًا يسهل قياده.
ويحتل المخاطب الثالث الذي هو هذه المرة مفردةٌ مؤنثةٌ نصفَ المقطعِالرابعِ وكامل السادسِ بشكلٍ واضحٍ، وإن كانت تحتلّ كاملَ القصيدةِ بشكلٍ مضمر - كما ظهر الشعبُ من قبلها بشكل سريٍ يستشفه القارئُ فما دام الحديثُ عن الحاكمِ فسيكون الطرفُ الآخر هو الرعية بالضرورة - باعتبارها الغاية، هذه الأنثى هي المرأة/ الوطن والمعنيّة هنا فلسطين، رغم أنها يمكن أن تنطبق على كل الأوطانِ والعربيةِ على وجهِ الخصوص، وهي التي يخصّها الشاعرُ بالعنوانِ المتّكئِ على فعل الأمر «انتفض» الذي يشير إلى الحركةِ والاهتزاز ولكنها ليست حركةً عبثيةً بل هو اهتزازٌ مثمرُ مثلما تتساقط الثمارُ عن الشجرة إن اهتزّت وانتفضت، والثمارُ المرجوّة هنا بعد انتفاض الأرض الحريةُ واستردادُ الكرامةِ التي كانت مهدورةً زمنًا. يقول: «انتفضي..!!/ يا حلوة العينين/ يا طرية..كعود بان/ انتفضي..!!/ ستنبتين في العيون والأجفان.. / تنبتين.. في الوريد والشريان..» وفي هذه الأسطرِ تظهر النفحةُ النزاريةُ، وبخاصةٍ في خطابه لبيروت «ست الدنيا» كما وصفها، إذ يطلبُ منها أن تقوم من تحت الردمِ والركامِ لتستعيدَ عافيتها بعد الخيباتِ والحروبِ «كزهرةِ لوزٍ في نيسان».
تمورالقصيدةُ بالحركةِ التي تظهرُ في الجملِ الفعليةِ الكثيرةِ التي تنبني عليها القصيدةُ، رغم كونِها في معظمها أفعالًا طلبيةً توزعتْ بين الأمر - الذي كان له النصيبُ الأكبر - وبين النهي، كما أنّها تضجّ بالرموز والإسقاطاتِ التاريخيةِ التي لا يمكن الوقوفُ عليها في هذه القراءةِ السريعةِ القصيرة، أو محاولتِها كما اتفقنا بدءًا!