بمحض التداعي الحر تعود بي الذاكرة إلى بيتنا الطيني في عنيزة زمن الطفولة المبكر. كنت وأخي نقضي فترة القيلولة، التي يخلد فيها الكبار للنوم، في مكتبة المنزل المتواضعة، أحياناً للمذاكرة وغالباً لمطالعة المجلات والقصص. أكداس من مجلات المصور وآخر ساعة المتخمة بصور المهرجانات القومية والصور والعناوين المثيرة ومعظمها بلا أغلفة، حيث مضى على صدورها عدة سنوات. وفجأة بين ركام هذه المجلات العتيقة تبرز أعداد من مجلة منزلية من ورقتين مكتوبة بخط اليد ومليئة بالتعليقات الحماسية والكتابات الوطنية وأحياناً بالنقولات من الصحف والمجلات أو المذياع مع بعض الأبيات الشعرية التي تدور حول فلسطين والعرب. كان معظم ما فيها صدىً لتلك المجلات التي نطالعها كل يوم، وكان رئيس تحرير هذه المجلة المنزلية الشاعر مسافر، ابن العم الأكبر الذي يعيش في الرياض ولا نراه إلا لماماً في مناسبات الأعياد.
كان مسافر في ذهني جزءاً من هذا الكرنفال القومي المثير الذي يتردد صداه في المذياع والمجالس وكان الشعر عندي هو هذا الإيقاع الحماسي الذي لحمته فلسطين وسداه العروبة التي لا أفهمها. ورويداً رويداً صرت أرى مسافر في العطلات يصطحب معه عصافير ورقية ملونة هي دواوين نزار والسياب وصلاح عبدالصبور وبلند الحيدري وغيرهم، فوجدت لغة أخرى وموضوعات مختلفة، ثم قرأت قصائد مسافر التي يخبئها داخل هذه الدواوين فإذا اللغة المخملية والرومانسية المترفة، وإذا صورة أخرى تنطبع في الذهن فاستبدل أجواء تلك المجلات العتيقة بهذه الواحة الشعرية الجديدة وكانت زيارات مسافر الموسمية بما تجلبه من بضاعة شعرية ثرية بمثابة معرض كتاب مصغر لمن يفتقد مصادر هذه المطبوعات.
ولعل أبرز ما انطبع في الذهن عبر السنين هو حالة عدم التطابق بين الصورة الشعرية لمسافر وسيرته في الحياة، وهو انطباع ربما راود أذهان قرائه ومجايليه، فشعره سيرة عاشق وسيرته حياة زاهد، أو كما يقول عنه الشاعر الأستاذ عبدالله الزيد:
هو في الفن هامة لا تبارى
وهو في النبل من بقايا الصحابة
ويأتي استخدامه للاسم المستعار كرمز ردحاً من الزمن ثم بقاؤه رديفاً للاسم الحقيقي فيما بعد، ليس نزعة للتواري بقدر ما يبدو علامة على هذا التمايز في النزعة والسلوك بين الشخص والشاعر، بين الجرأة في الغزل والتوازن في الحياة، فالاسم هو الشخص والرمز هو الشاعر، الاسم هو الأخلاق المحافظة والسلوك المتوازن، والرمز هو العشق الجامح والغزل الجريء، الاسم هو هذا الحياء والأدب الجم والرمز هو ذاك التجاوز والاقتحام للمستور في تجاور وتآلف غريب، فهو هذا الإنسان المتوازن وهو ذاك الشاعر المفرط في غزله الرقيق وعشقه المشبوب، فكأنما هذا الترادف المتناوب بين الاسم والرمز هو ما جعله يبحر في فضاء الشعر بلا قيود أو حدود وما جعله أيضاً يعيش نمط حياته الذي يرتضيه بعيداً عن أجوائه الشعرية المثيرة.
وإذا كانت النزعة القومية القوية قد طبعت بداياته الشعرية، وأغلبها غير منشور، وإذا كان الغزل الرقيق واللغة المخملية قد غلبا على أشعار مرحلة الشباب، فإنه صار يستمد من التراث والتاريخ العربي كثيراً من مادته الشعرية في مزيج جميل بين لغة الغزل وروح الهوية وأمثولات الأمة عبر تاريخها الطويل، فالعشق وطن والأرض امرأة والغزل يطال كل شيء ولغة الحب تتسرب في كل مسامات مفرداته الشعرية.
تبدو مسيرة مسافر أبعد ما تكون عن السفر في واقع حياته، لكنه الأكثر إيغالاً في السفر في رحلته الشعرية، وإن كان يبدو أن كل الشعراء في حالة سفر افتراضي وكأن الشعر حالة سفر في اتجاهٍ ما في زمنٍ ما أو في كل زمن.
هذا زميله الشاعر الراحل صالح العثيمين يبادله هاجس السفر إذ يقول:
أيهذا (المسافر) الفذ فينا
قد دعاك النفير هلا تؤوب
يا رفيق الترحال هل ثم ورد
فخيولي طريقها مرهوب
لم يكن شأن من شؤون الحياة أو مصلحة من المصالح أهم لديه من الشعر، فهو متبتل في محرابه ويكاد يتنفسه تنفساً رغم إدراكه أن جمهوره ينحسر وعشاقه يتوارون، وهو قدر أصحاب الفنون، وهو يهدي من دواوينه أكثر مما يبيع ربما محاولة للتحريض على قراءة الشعر أو لاعتقاده أنه من ضرورات تواصله مع الآخرين.
يضنيك البحث كثيراً إن كنت تفتش عن هجاء أو تعريض مبطن في شعر مسافر، وليس ذلك مجرد نهج شعري بل هو في عمق أخلاقه وسلوكه مع الناس، إذ رغم رهافة إحساسه وربما سهولة استثارته فلم أعهد منه انفعالاً يفضي إلى إيذاء أحد أو التفوه بكلمة جارحة وكان أكثر ميلاً للتسامح والتجاوز والبعد عن الإثارة.
وأخيراً فإن هذه اللغة الرقيقة الدافئة في شعره ليست مجرد أداة لنقل الصور والتعبير عن المعاني والأحاسيس الشعرية لديه فحسب، بل هي صورة طبق الأصل لأسلوب تعامله مع الآخرين وتعاطيه مع مختلف المواقف يلمسها كثير ممن عرفوه، وهي من الحالات النادرة التي يتجسد فيها المجاز ويتمازج فيها الفن مع صاحبه معنىً ومبنى، روحاً وجسداً.
وأخيراً إذا كانت شهادة الصديق مجروحة فما بالك بشهادة القريب، ولكن الشعراء كغيرهم من الموهوبين، حق عام لا يدعيه قريب ولا يستأثر به صديق، والحديث عنهم هو نوع من إعادة قراءتهم واستعادة عوالمهم، ولعلني فعلت شيئاً من هذا القبيل.