عندما تقرر أن تكتب عن الشاعر «أحمد الصالح» فأنت لا تستطيع أو هكذا أعتقد أن تكتب عنه إلا من خلال السفر في فلسفة المسافر اللقب والتأثير، هذا اللقب الذي حيرتني دلالاته المختلفة الألوان؛ لأنه يملك الغموض والوضوح معا، العمق والبساطة معا،التدرج والكلية معا مثل قصائده التي تشبه طيور الفضاء في غدوها ورواحها.
«مسافر» هذا اللقب الذي يستدعي إلى ذهنك الفضاء والمتعة التمرد والحرية والرفض والاستقلالية؛ استدعاءات تتحرش بفضولك لتبحث داخلها وخلفها ومن خلالها عن «مسافر» يسكن جناحي طائر الشعر.
إذا كان الشعر استقلالا فكريا فما يسبقه على الاعتبار هو إثبات «امتلاك الحرية الخاصة» الدالة على وجود وقيمة الاستقلال؛ وإثبات امتلاك حق الحرية وجودا وقيمة قد يحققه كل منا بطريقة مختلفة؛ وهذه الدلالة يجب ألا نغفل عنها ونحن نسافر في فضاء «فلسفة مسافر يسكن جناحي طائر الشعر».
نعم، نحن لا نملك حرية اختيار أسمائنا لكننا في مرحلة أخرى نستطيع استعادة تلك الحرية من خلال اختيار لقب يمثلنا، ولا تتحقق الحرية في تغير أسمائنا؛ فنحن نغير أسماءنا تحت ضغط المجتمع؛ لكن اختيار كل منا «اللقب المناسب له» هو الممثل للاستقلالية وجودا وقيمة ؛ لأنه تعبير عن أنفسنا كما نرى وكما نعتقد ونتمنى لا كما يرى غيرنا ويعتقده ويتمناه. ولذلك فاللقب ليس معادلا للاسم أو ليس هذا الهدف منه لأن كونه بديلا بالمعادِل، فهذا يعني تكريسا لأبوية الاسم. إن اللقب هو «ثورة بيضاء « على «الذات الموجهة عبر الاسم المفروض علينا».
وبما أننا نحن من يملك حرية اختيار ألقابنا فنحن بذلك نقر إثباتا بحقيقة أن كل الاستدعاءات المعنوية الخاصة باللقب وخلفياته هي ممثلة لنا وبذلك يُصبح اللقب عنوانا لنا وهوية.
إن تجرد «مسافر» من أداة التعرف المُثبتة للماهية هو تأكيد على الفضائية والتمرد، وكلما تجرد اللقب من قيود التعريف أقترب من عمق حقيقة الوجود والقيمة للاستقلالية والانعتاق من مرايا الزمان والمكان وحدود الحيزية.
إن التعريف الإجباري سلاسل قيد وخاصة عندما يمثل رمزية لمكان أو عرف أو اتجاه أو معتقد، والشعر والشاعر مثل الفضاء لايمكن تسقيفه ولا تأطيره، لكن الأرض تُمكّن من التسقيف والتأطير، هذا هو منطق»مسافر» إن الشعر فضاء والشاعر يسكن دوما في جناحي طائر خُلق ليعيش حرا في الفضاء».
إن اللقب يُحرر الوعي من الاشتراطات المفاهيمية الخالقة للنمطية والتي عادة ما تُشكل مأزقا مع ما تفترضه إرادتنا المستقلة من مفاهيم وتوصيفات وأحكام؛ إنه حياة أخرى لوعي جديد ومنطق جديد يهدم خلوة الأرض ليفر إلى حرية الفضاء ولا يستطيع أي متأمل للتجربة الإبداعية للأستاذ أحمد الصالح أن يتجاوز «فلسفة اللقب» الذي يرتبط به وعلاقة هذا اللقب بموقفه من أحكام الحياة والتجربة الإبداعية، وهذا التساند الاشتراطي يدفع قارئ التجربة الشعرية للمسافر إلى البحث عن تأثيرات ذلك اللقب على التجربة أو تأثير التجربة في تشكيل ذلك اللقب..كلا الأمرين يرتبطان بأسئلة ماهية العلاقة بين الشعر والشاعر هاهنا؛ على الاعتبار أن لكل شاعر فلسفته الخاصة التي تنخلق من خلالها رؤيته الإبداعية. إن اللقب ممثل لمنطق صاحبه ومؤوِل لرؤيته وشخصيته إنه معادل لأناه.
و»مسافر» لقب يحمل الكثير من الدلالات تبدأ بدلالة حرية الحركة، فنحن غالبا ما نشبه المسافر بالطائر، والطيران يرتبط بالفضاء ،الفضاء ضد مرايا المكان والزمان، ضد عرفية الحيزيّة. ف»مسافر» هنا «صوت الثورة الهادئ المسالم» نعم، فهناك الثورة السلمية وهي أقوى في التأثير. فالهدوء لا يعني البطء إنها خاصية الطيران، فنحن نستمتع بقيمة الطيور في هدوئها، والضجيج لا يصنع قيمة غالبا.
ولذلك لا يمكن أن نغفل دور ثيمة اللقب»مسافر» في ثنائية السفر والشعر، هذه الثنائية التي تخلق عند قارئ «مسافر» العديد من الأسئلة إن لم تكن في ظاهرها جدلية فهي في باطنها إشكالية؛ إشكالية تتعلق بعلاقة الشعر ومنتِجه التي تشبه خصام العشاق.
أسئلة تتبادر إلى ذهن قارئ شعر «مسافر» فيترصد للبحث عن علاقة الشعر بالسفر والسفر بفلسفة الزمن الحي؛ فهل القصائد لا تُخلق إلا في زمن السفر؟ وهل الشعر هو آلة السفر عبر الأزمنة الذي يتحدى بها الشاعر الأينشتاينية بالعودة إلى الماضي الحي واختراق التواصل مع المستقبل وهندسة المثلثات في حضور قمة بلاهرم؟ فالطيور تؤمن خلافنا بأن القمم في الفضاء لا تحتاج أهراما لتسندها.
إن الوقوف أمام لقب»مسافر» يدفعنا إلى العودة إلى ما حيّر النقاد قديما عن ماهية الشعر هذا «السحر الرمادي» الذي تُخلق منه كل الثنائيات وهو غير قابل للقسمة على اثنين.
فهل الشعر سفر خارج الذات أم سفر داخل الذات؟ وفي الحالتين ففاعلهما «المسافر» يخضع لجدلية المحو والانبناء، ورفض لثمر الأرض وتحدي لحرث الفضاء لتنمو عصافير الجنة وشقائق النعمان.
وهل السفر داخل أو خارج الشعر غربة أم اكتشاف؟ ونحن هنا أمام طبيعة التمثيل بين الأنا المسافر والآخر في مستوياتها الحالة والتجربة والشمول.
هل السفر خارج أو داخل الشعر إعلان أم اختباء؟ إن سرية الاختباء تتلاشى مع إمكانية الاختيار من متعدد، وتلك الإمكانية هي التي تُحفز على الإعلان.
هل السفر داخل أو خارج الشعر مشاركة أم عزلة؟ وحينا تكون جامعة بينهما إن الفضاء في غروبه عزلة وفي شروقه مشاركة؛ عندما تحلل مستويات التخاطب في قصائد في زمن السفر ستجد أن الشاعر يستخدم نوعين من التدرج التخاطبي؛ النوع الأول ستجد قصائد يبدأ بها بأحادية تتدرج لتنتهي بتخاطب تعددي والنوع الثاني يبدأ بتخاطب تعددي ثم ينتهي بمخاطب أحادي إنه مزج بين عزلة المسافر في غروب الفضاء وتعددية المشاركة في شروق ذلك الفضاء.
هل السفر خارج الشعر أو داخله حرية أم هروب؟ إنهما معا عندما يصبح الشعر جاذبا للرجعية باعتباره ديوان الأمم والعقيدة الصامتة للفرد أو جاذبا للحضارة باعتباره ماكينة للنهضة الثقافية.
كان ومازال السفر عبر اختراق تعدد الأزمنة أسطورة آمن بها العلماء وفتن بها الشعراء، فالماضي ملهم الشعراء والحاضر وحي التنبؤ الكاشف للمستقبل، ولذلك اعتبرت الكثير من الشعوب في زمن استعمار الشعر أن الشعراء من ورثة الأنبياء.
فالشعر في ذاته هو تجربة انعتاق من حدود الأزمنة والأماكن، تقول الحكمة النقدية القديمة «يُباح للشاعر مالا يُباح لغيره» حكمة أصبحت فيما بعد قانونا وفي زمن استعمار الشعر أصبحت «تشريعا ثابتا».
إنها حكمة لا تجوّز فكرة «الانحلال» بقدر ما تهدف إلى تثبيت فكرة الارتباط بين الشعر و»الانعتاق والحرية» وأن أصل الشعر هو سفر في فضاء لا يقبل الحدود والتأطير، وأن الشاعر الحقيقي هو مسافر يعيش في جناحي طائر متى ما سُقّف بقفص الأرضية فقد صوت ثورته؛ هكذا أرى (مسافر)..في جناحي طائر الشعر.