يوم الخميس الماضي، شاهدتُ بالمصادفة نقلاً تلفزيونياً على شاشة قناة (الثقافية) للمؤتمر الصحفي الذي عقده معالي نائب وزير الحرس الوطني الأستاذ عبد المحسن التويجري نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) في الدورة 29 لهذا العام، وقد استفزني سؤال من أحد الحضور – لم أنتبه لاسمه – وجهه لمعاليه: يرى كثيرٌ من الشعراء السعوديين أن المكافأة المالية التي تقدم لهم مقابل المشاركة في الأمسيات الشعرية المقامة ضمن فعاليات مهرجان الجنادرية غير مجزية لذلك يعتذرون عن المشاركة فما رأي معاليكم؟ فأجابه معاليه: (المهرجان وطني بالدرجة الأولى ولا أظن الشعراء ينظرون إليه نظرة مادية لأن المفترض فيهم أن تكون مشاركاتهم من أجل الوطن لا المادة، وعلى كل حال فدائماً يخصص للمشاركين – شعراء وغيرهم - مكافآت مالية معقولة وكافية)..
السؤال فيه طعنٌ لمقامات الشعراء الحقيقيين وتشويهٌ لقاماتهم، ومع الحكمة في التمهيد للجواب إلا أن ختامه كان على قدر السؤال مما يزيد الطين بلَّة!
يتوجب علي هنا – مكرهاً غير مدعٍ بطولة – أن أقول تجربتي مع (الجنادرية) إنصافاً للشعر والشعراء وإيضاحاً لما يحصل مع بعضهم على أرض الواقع، بعد ما طالهم من تقزيم لأسبابهم، فأنا ممن كانوا يعتذرون حين كنتُ في بدايات مشواري مع الشعر والكتابة وكانت الجنادرية في نهايات العقد الأول من دوراتها، وكانت اعتذاراتي شاملة جميع الدعوات التي كانت تأتيني من كل مكان وليس مهرجان الجنادرية وحده. أما حين تأكدتُ من نضوج تجربتي الشعرية وصرتُ ألبّي بعض الدعوات التي أراها تليق بي، فلم تأتني دعوة للمشاركة ضمن فعاليات الجنادرية إلاّ في دورتها 27 قبل عامين، وقد وصلني خطاب الدعوة موقعاً من صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد الله رئيس الحرس الوطني، وقد جاوبته فوراً بالموافقة مع الشكر والتقدير. وكان مع الخطاب جدول يوضح موعد ومكان الأمسية والمشاركين فيها (خمسة أسماء) أكبرتُ أن اسمي كان أولهم، غير أنه قد حدث يوم الأمسية تغيير في موعدها المتفق عليه لم أبلَّغ به إلا قبل الموعد بساعات قليلة، وأسباب التغيير لم تقنعني أبداً فاعتذرتُ احتراماً للشعر ولتقاليد الوطن الذي نعيش فيه. فمعروف أن في أوقات الصلاة تتوقف جميع الحركات والأنشطة الطبيعية لدينا – وإن لم أقتنع شخصياً بوجوب ذلك، فهو تقليدٌ منتظم منذ تأسيس المملكة ولا يزال مستمراً، فلا بد لي من الالتزام به - فحتى المطاعم ومحطات الوقود تغلق أبوابها حين يرفع المؤذنون (حيَّ على الصلاة) فكيف لأمسية شعرية أن يتغير موعدها فجأة لتكون قبل أذان العشاء بدلاً من موعدها الذي كان مقرراً ببداهة بعد صلاة العشاء؟ ولماذا؟ قال الأخ فالح العنزي – المنسق للفعالية – حين اتصل بي: إن في برنامج الضيوف تم استحداث فعالية ثقافية أخرى أكثر أهمية ستكون بعد الصلاة (!) قلتُ: إذا كان الشعر أقل أهمية بالنسبة لكم فإلغاؤه أفضل، وأصررتُ على عدم الحضور رغم إلحاحه الشديد، ولكن على ماذا كان الإلحاح؟ الأخ فالح رجلٌ بشوش وكاتبٌ قصصيّ وإعلاميّ، وأنا أحبُّ شخصه وابتسامته، ولكنه كان يلحُّ عليَّ أن أقبل بما فرضته الظروف (أي بما يعني أن الشعر لا أهمية له بين الفعاليات الثقافية) – كما قبل بذلك غيري من الشعراء، على حد قوله! - وهذا هو المستحيل بعينه. فالشعر أساسُ الثقافة على امتداد الأزمنة والأوطان، ومن يقبل بثانويته في الهيكل الثقافيّ لم يعرف الشعر حق المعرفة (أقولها وصوتُ الشنفرى يتجلَّلُ: ولكنَّ نفْسامُرَّةَ لا تقيمُ بي/ على الذأم إلاّ ريثما أتحوَّلُ) فحين قدّر لي الله أن أكون شاعراً أخلصتُ لهذا القدَر وفرّغتُ نفسي تماماً لأجله فقط، وانغمستُ فيه وأضفتُ إليه ما يجعلني منتمياً له الانتماءَ الأبديَّ. أفبعد ذلك كله أقبل له أن يكون بلا أهمية؟ وهل يفيد الوطن أن يكون شعراؤه – كلُّهم - موافقين على التقليل من أهمية الشعر ويقبلون بتغيير مواعيد حضورهم وقراءاتهم امتثالاً للقول بأن ثمة ما هو أهم من ذلك قد طرأ ببال منسقي الفعاليات؟ وهل من الوطنية أن نعرّض أنفسنا لمواقف لم نكن نقصدها إذا ظلَّت أمسيتنا الشعرية مفتوحة وقت الأذان والصلاة في حين تغلق الدنيا كلها عدا المساجد؟ أو أن يكتفي شاعران وثلاث شاعرات بالجلوس خلف الميكروفون أمام الجمهور وإذا رُفع الأذانُ قبل أن يأتي دور أحدهم فليندب حظه..؟!
أسئلة كثيرة لم يكن لها جواب عندي سوى الإصرار على عدم الحضور في الموعد الطارئ، بخاصة أنه قد حدث – وكنتُ حاضراً من ضمن الجمهور - في إحدى دورات الجنادرية (أظنها 9 أو 10) أن رفع أذان العشاء وأحد الشعراء كان قد بدأ للتو يقرأ قصيدته في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات فاضطر أن يقطعها ويصمت وانفضت الأمسية في موقف لا يُحسد عليه شاعر(!) لذا كان لا بد لي أن أعتذر حتى لا يتكرر معي الموقف نفسه، ولا أدري بعد ذلك ما الذي حدث في تلك الأمسية، فالمهم أن اعتذاري – أو امتناعي - لم يكن من أجل (مكافأة مادية) كما جاء في ذلك السؤال المستفز. والمستفز أكثر أنني حين قابلتُ الأخ فالح العنزي مصادفة بعد ذلك بأكثر من عام، في مكتب الدكتور عبد الله الحيدري رئيس النادي الأدبي بالرياض، قال لي إنهم – يقصد اللجنة المنسقة للفعاليات الثقافية في الجنادرية – قد وضعوني في القائمة السوداء (قالها بالإنجليزية: البلاك ليست!) وبغضِّ النظر إن كان يقولها مازحاً أو جاداً فالكلمة جارحة حدَّ الألم. هل مثلي يوضع في قائمة سوداء لأنه احترم شعره ومتابعيه بالإضافة إلى النظام العام في البلاد؟ ومع ذلك لم أتكلم في الموضوع، حتى وإن كنتُ في (البلاك ليست) ولم أكن أنوي الكلام فيه مطلقاً لا في حوارات ولا مقالات لولا مصادفتي لمؤتمر عن الجنادرية كان فيه سؤال وجواب يزيد الجرح ألماً..
يعرف المتابعون للثقافة جيداً ما الذي أقدمه شعرياً وأدبياً منذ عشرين عاماً بشكل متواصل ومن دون أيّ دعم من أيّ أحد، وأنا في النهاية لستُ سوى (شاعر سعودي) كما يوضع تحت اسمي في كل مكان من العالم يقدّر الشعر والشعراء، وحين طُلب مني أن أساهم في حفل افتتاح مؤتمر الأدباء السعوديين الأخير بقصيدة جديدة وافقتُ وكتبتُ وسافرتُ بسيارتي من الرياض إلى المدينة المنورة وألقيتُ قصيدة الافتتاح - التي وصفها معظم الشعراء والأدباء الذين كانوا حاضرين بأنها لخَّصتْ شعراً ما ينبغي قوله للوطن ومن حوله في المرحلة الراهنة – ثم غادرتُ من دون أن أستلم هللة واحدة من أحد، ولا حتى تكاليف السفر (المذكورة دائماً في خطابات الدعوات الرسمية!) وكنتُ ولا أزال مكتفياً بالتقدير والاهتمام الذي لاقيته من منظمي المؤتمر. فكيف أقبل أن يقال عن الشعراء الآن، وفي مؤتمر صحافي حاشد، بأنهم يبنون موافقاتهم أو اعتذاراتهم (الوطنية) بقياس المكافآت المالية؟!
ختاماً أقول: من يشاهد مقابلة القناة الثقافية معي قبل موعد أمسيتي التي كانت مقررة ضمن فعاليات الدورة 27 للعام قبل الماضي يعرف مدى تقديري للجنادرية وحديثي الإيجابيّ عنها في كل مكان – والمقابلة موجودة على يوتيوب – ومن يقرأ مقالتي هذه يعرف سبب امتناعي عن المشاركة في تلك الأمسية. وما أنا إلا واحد من الشعراء الذين يخلصون للشعر ويقدرون الجنادرية والوطن عموماً تقديرهم لأنفسهم ولتجاربهم الشعرية والأدبية بالدرجة الأولى، ولكنَّ أسباباً – غير مادية قطعاً – ترغمهم على الاعتذار أو الامتناع عن المشاركات الوطنية أحياناً، حتى يكون لهم من الأهمية والتقدير بقدر ما يقدمونه من أعمارهم ونبضات قلوبهم التي تعبت من الطعنات؛ مع أطيب التمنيات.